: آخر تحديث

هموم بريطانيا... متى تتعافى؟

18
12
14

في صباح اليوم الباكر، يضرب زعيم الحزب الذي فاز بحصة الأسد من الأصوات في الانتخابات العامة البريطانية موعداً مع التاريخ. وقبيل الظهر بالتوقيت المحلي، يتوجّه إلى قصر باكنغهام في لندن، حيث سيكلّفه الملك تشارلز الثالث رسمياً بتشكيل الحكومة الجديدة، ويتمنى له التوفيق في مهمته.

والحق أنه يحتاج إلى التمنيات الطيبة. ففي 10 داونينغ ستريت، مقر رئاسة الوزراء، سيكون الكثير من القضايا الشائكة بانتظاره للبدء في تفكيك ألغامها، والمشكلات التي عليه أن يباشر فوراً بالبحث عن حلول ناجعة لها.

هناك ما يشبه الإجماع بين استطلاعات الرأي على أن الاقتصاد هو أم القضايا بالنسبة إلى البريطانيين. حكومة المحافظين المنتهية ولايتها برئاسة ريشي سوناك، الاقتصادي المشهود له بإدارة أمواله الخاصة التي تقدّر بمئات الملايين، نجحت في خفض نسبة التضخم من 11.1 في المئة كما كانت في تشرين الأول (أكتوبر) 2022 حين تسلّم الحكم، إلى 2.3 في المئة. وبالتالي أخذت الأسعار المجنونة تهبط نسبياً. مع ذلك، يُعتقد أن معايير المعيشة بالنسبة للعائلات الأكثر فقراً هي أقل بـ 20 في المئة مما كانت عليه في عام 2019. فالأزمة التي تكاتفت على خلقها في عام 2021 عوامل عدة، منها ارتفاع التضخم وكوفيد والبريكست وغزو أوكرانيا، لا تزال تحرم الكثيرين من أساسيات، كالكهرباء والتدفئة والغذاء. وإلى جانب التصدّي لها، الحكومة الجديدة مطالبة بالعمل على رفع معدل نمو الاقتصاد البريطاني الذي سيكون الأقل في مجموعة السبع في عام 2025.

ويأتي تالياً في قائمة المطالب الشعبية إصلاح هيئة خدمة الصحة الوطنية، العليلة، التي أُنشئت في أربعينات القرن الماضي لتوفير الرعاية الصحية المجانية للبريطانيين والمقيمين. وهي تعاني إهمالاً مزمناً وخفضاً للموازنة في ظل حكومات متعاقبة خصخصت أجزاءً منها. وبالنتيجة، صار المرضى يمكثون سنة كاملة أو أكثر بانتظار دورهم لمراجعة استشاري أو إجراء عملية جراحية. وفي أقسام الإسعاف، يبقى الآتون إليها طلباً لمساعدة سريعة نحو 16 ساعة في بعض الحالات، قبل أن يراهم المختصون! ولم تستطع حكومة سوناك تقليص قوائم الانتظار، كما تعهّدت، على الرغم من ضخّها مبالغ كبيرة وصلت إلى 165 مليار جنيه إسترليني في موازنة الهيئة. لذا ينبغي على ساكن 10 داونينغ ستريت الجديد أن يشمّر عن ساعديه منذ اليوم الأول، ويلتفت إلى جوانب الخلل في الرعاية الصحية وعدم كفايتها.

أما الهجرة، فهي مشكلة المشاكل بالنسبة إلى الحزبين الرئيسيين في بريطانيا. استغلها "أبطال" الموجات العنصرية منذ ستينات القرن الماضي وسبعيناته، وما زالوا، لبلوغ أغراضهم السياسية. مع هذا، ظل الغرباء، من فقراء ولاجئين يحتاجون المساعدة، أو طلاب ثروة وأشخاص مغرّر بهم، يأتون إلى بلاد لم تعد قادرة على توفير الطعام لأطفالها الذين يجوع ثلثهم!

ارتكب سوناك غلطة كبيرة حين ربط مصيره بالهجرة، في محاولة لقطع الطريق على اليمين المتطرّف. أطلق شعاره الشهير "أوقفوا الزوارق" فتزايد عددها. ووصل منها هذا العام حتى 26 حزيران (يونيو) الماضي 13195 زورقاً، وهو أعلى من عددهم في التاريخ ذاته في العامين الماضيين، بحسب ما ذكرت "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي). وأهدر مئات الملايين على مشروع ترحيل اللاجئين غير الشرعيين إلى رواندا ففشل فشلاً ذريعاً. أما حزب العمال فيتبنّى سياسات صارمة لا تدافع عن المهاجرين، كما تعهّد زعيمه ستارمر قبل سنوات. ولم يطرح في بيانه الانتخابي ما يوحي بنيته التعامل معهم بطريقة مختلفة جذرياً عن المحافظين. ولا يفوته أن يؤكّد عزمه على كبح الهجرة، والسبب المرجح بالطبع هو المعارضة الشعبية العارمة لتدفق الأجانب. وتأتي الهجرة في معظم استطلاعات الرأي في المرتبة الثالثة من حيث الأهمية بالنسبة إلى البريطانيين.

أما القضايا الأخرى التي تشكّل قاسماً مشتركاً بينهم، فأبرزها الإسكان، نظراً إلى ارتفاع الإيجارات وشح المساكن مع تراجع مشاريع الإعمار الحكومية. وللبيئة حصة متزايدة من اهتمامهم، كما قال خُمس المشاركين في استقصاءات حديثة للرأي. وشعبية حزب الخضر تتنامى، ولا سيما على مستوى البلديات. ويطالب كثيرون بالإنفاق على التعليم لإنصاف العاملين فيه وإعادة تجهيز بناه التحتية، خصوصاً مع ارتفاع عدد المدارس المتهالكة فوق رؤوس الطلاب. تصاعد معدلات الجريمة وغياب الأمن وتفشي تجارة المخدرات وتعاطيها، تمثل هي الأخرى مصادر قلق للبريطانيين الذين حثوا حكوماتهم دائماً على العمل لمكافحتها بصورة فعّالة.

ولا تبرح معالجة تداعيات البريكست السياسية والاقتصادية، قوائم الأولويات لدى البريطانيين الداعين إلى فتح صفحة جديدة للتعاون بين بلادهم والاتحاد الأوروبي. إلّا أن نسبة من يولون البريكست القدر الأكبر من اهتمامهم منخفضة نسبياً، كما هي الحال مع غزة. فمن يطالبون حكومتهم بالكفّ عن دعم حرب إسرائيل في غزة ووقف تصدير السلاح إليها، لا تزيد في الغالب على 5 في المئة في استطلاعات الرأي،  وربما لا توحي هذه النسبة بالقوة الحقيقية لحملة مناهضة حرب الإبادة، التي حفّزت كثيرين على الترشح في الانتخابات كمستقلين، قد ينجح بعضهم بالوصول إلى مجلس العموم.

ويرى معارضو موقف الحزبين الرئيسيين من حرب غزة أنها قد ألحقت الأذى بصدقية بريطانيا في العالم وجعلتها عاجزة عن إقناع الكثيرين بأنها مؤهلة لإعطاء أي دولة دروساً في الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان.

هكذا بدت مراكز بحوث بريطانية مرموقة منفصلة عن الواقع، حين اعتبرت أن الترويج لقواعد الحكم الرشيد والتعددية، من المهمّات التي تنتظر الحكومة الجديدة في ميدان السياسة الخارجية. حبذا لو حذَّرَتها من الإمعان في استعداء الصين، ودعتها إلى بلورة سياسات أشدّ فعالية حيال الشرق الأوسط وأوكرانيا، والمساهمة في اتخاذ الاحتياطات اللازمة في حلف الناتو وأوروبا، نظراً إلى احتمال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

لكن، يُستبعد أن تطور بريطانيا "الجديدة" علاقات ناضجة مع أوروبا والعالم، وتبدأ بالتعافي من همومها، إن لم تخرج من القوقعة التي حبسها فيها البريكست!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد