أتينا، في المقال السَّابق، على نقض مهدي النَّجار لكتاب «فلسفتنا»، في مجلة «الثقافة» (العدد الأول 1973)، هنا نأتي على ردّ محمد باقر الصّدر، في «الثّقافة» نفسها (العدد الرابع 1973)، جاء موقعاً باسم عمار أبو رغيف، والأخير نشره (2004)، في كُتيب «قراءات نقدية حول كتاب فلسفتنا»، فظهر الرَّد من تأليف الصّدر نفسه، قد يكون لا يريد قحم اسمه في الرّدود، أو أراد أن يربأ بنفسه عمَن لا يعتبره صنواً، فلرجال الدّين حساباتهم في مثل هذه المواقف.
نفهم مِن مقدمة إدارة المجلة، أنَّ ردوداً وصلتهم ضد النّجار، لكنَّ المجلةَ لم تجدها: «وقد وردت إلى المجلة ردود متباينة، حول هذا النّقد، ورغم أنَّ منطلقات هذه الردود غيبية، لا تنسجم تماماً مع المنطلقات العلمية، التي التزمت بها مجلة الثقافة»(العدد الرابع 1973).
أجاب الصّدر في رده على نقض النجار فقرة فقرة، مؤكداً صحة كتابه. معتبراً وجود المادة افتراض عقلي، وليس حسياً، مثلما نقضه به النجار، وهو مثال «الوردة»، بينما علم الفيزياء وغيره مِن العلوم تعتبرها واقعاً محسوساً، لا افتراضاً عقلياً، مثلما ذهب المثاليون، وكان تأكيد الصَّدر عبر مثال: «الوردة التي نراها على الشَّجرة، أو نلمسها بيدنا، إنّما نحسّ برائحتها ولونها ونعومتها، وحتّى إذا تذوّقناها، فإنّنا نحسّ بطعمها، ولا نحسّ في جميع تلك الأحوال بالجوهر الذي تلتقي جميع هذه الظواهر عنده، وإنّما ندرك هذا الجوهر ببرهان عقلي يرتكز على المعارف العقليّة الأوّليّة»(الثَّقافة).
اَتَّهمَ الصّدر النّجار بعدم قراءة «فلسفتنا» جيداً، وإلا ليس له اتهامه (العبارة للصدر) بالخلط بين الفلسفة اللاهوتيَّة والفلسفة الدّينيَّة «الوحيويَّة». يختم الصّدر رده على نقض النَّجار مشيراً إليه بعدم الإنصاف، وعدم تقدير العِلم: «إنّ الإنصاف والموضوعية وتقدير العِلم أينما وجد، ولو كان لدى الخصوم الفكريين، مِن أهم الشّروط أن يتحلى بها النَّاقدون المثقفون، بما فيهم الأستاذ النَّجار. هدانا الله وإياه إلى سواء السّبيل»(الثّقافة).
ما أعجبنا في نقد النّجار ورد الصّدر لغة الحوار الثّقافي، وهذا ما همنا كثيراً، في حوار بين مِن هما على طرفي نقيض، لكن ما نلفت النظر، في النقد والرد عليه، أنهما تباريا بأفكار غيرهما، فالأفكار الديالكتيكية المادية والديالكتية المثالية، وما يخص نظرية المعرفة، لم يأت النَّجار بجديد عليها، وكذلك الصّدر، وهذا ما نعود ونؤكد ما سبق قوله في مقال «فلسفتنا.. ردود لا فلسفة».
بعدها نُشر نقد آخر، أغضب الإسلاميين أيضاً، لكنه بعد وفاة الصّدر، كتبه ماجد رحيم في مجلة «الغد»(صدرت خارج العراق)، تحت عنوان «ملاحظات حول كتاب فلسفتنا»(14 مارس 1983)، غير أنَّ رحيماً جعل كتاب «فلسفتنا» سبباً في إعدام محمّد باقر الصّدر (1980)، وهذا ليس صحيحاً، فالسُّلطة ليس لديها مشكلة مع الكتاب، بل العكس اتخذته رداً لرجل دين على خصومها الماركسيين، وكنا ذكرنا قصة نشر السُّلطة للكتاب، بعد زيارة مدير الأمن العام آنذاك فاضل البراك(اعدم: 1993) لمؤلف الكتاب في داره بالنجف، وتولت «دار الميناء» نشره، وهي دار وهمية، وحتّى نهاية السبعينيات كان الكتاب متوافراً في المكتبات، أثناء حياة الصَّدر، وزين غلافه بتقريظ وزير الأوقاف العراقيَّة نفسه (طبعة 1977).
أقول: اختفى نقض النّجار، بين صفحات مجلة الثَّقافة، وانتشر فلسفتنا، بعد تبني السلطة، وكثرة القارظين له، مِن قِبل الوسط الدّيني السياسيّ، مِن المذهبين، حتى وزير الأوقاف وهو في الخدمة، مثلما تقدم، المحسوب على التيار الدينيّ القومي، آنذاك، أثنى عليه (أمالي السّيد طالب الرّفاعيّ). كذلك تبناه القوميون، مثلما تبناه «البعثيون» في أول صدوره، بنشره حلقاتٍ في صحفهم، لكنَّ الاحتفاء بالكتاب وتقريظه، مِن قِبل المذكورين، جاء سياسةً لا دراسةً.