: آخر تحديث

متى تُبرم «وستفاليا» شرق أوسطية؟

21
23
23

في توصيف واقع الشرق الأوسط اليوم ما يشبه إلى حدّ كبير نسبياً، وضع أوروبا الغربية والوسطى، خلال حروب الثلاثين عاماً، التي بدأت في عام 1618 وانتهت بصلح «وستفاليا» في عام 1648، وكانت تلك الحروب قد أنهكت اقتصاد الدول والإمارات المشتركة فيها، وقضت على أرواح قسم كبير من السكّان، وهجّرت أعداداً هائلة، وكادت مقوّمات الحياة أن تنعدم كلياً، وليس من قبيل المبالغة أن يعدّ هذا الصلح أول معاهدة دبلوماسية في العصر الحديث، فقد أرسى منذ ذلك الحين، مبدأ سيادة الدول على أراضيها، لكن ربما الأهم، كان هو الاعتراف بالحريات الدينية للشعوب، وهو ما يمكن عدّه بدايات فعلية للعلمنة السياسية في أوروبا.

تحوّلت معارك الشرق الأوسط إلى ممارسة يومية، بعد أن فتحت ساحات عديدة، متصلة ومنفصلة، لكن كلّها، تشير إلى أمر واحد فقط: اضطراب منظومة الأمن والاستقرار في المنطقة، وهو العنوان السياسي العام، الذي تنضوي تحته عناوين بالغة الأهمية، لكن، ما يمكن الوقوف عنده بداية، هو غياب الأفق السياسي لحدوث معاهدة كبرى، من شأنها أن تحوّل المنطقة من مسار الحرب إلى مسار السلم، ومن مسار التقهقر إلى مسار التقدّم، ومن توسّع مساحة الدمار والموت، إلى ازدهار المنطقة وتقدّمها.

في صلب المعارك الحالية، تلعب المسألة العقائدية الدينية دوراً رئيسياً، وتستخدم الخلافات الدينية والمذهبية لتغذية الصراعات، إذ ما زال هناك إصرار على إعادة إنتاج متواصلة للسرديات التاريخية والتراثية، بكلّ ما يشوبها من مشكلات، ومن خلال هذه السرديات تُبنى تحالفات عابرة للدول وللمؤسسات الرسمية، وتضاف لها حمولات أيديولوجية، تؤدي أدواراً عملية، لفرز الاصطفافات، وجعلها أكثر متانة وتماسكاً.

من الناحية العملية، بعض دول المنطقة لم يعد لها من واقع الدولة سوى اسمها، وأصبحت دويلات، من حيث تقاسم سلطات الأمر الواقع فيها للجغرافيا والنفوذ والثروة، أو من حيث خلق وقائع فوق الدولة نفسها، ما يجعلها أقوى من الدولة ومؤسساتها، إذ لا يمكن الحديث اليوم، على سبيل المثال لا الحصر، عن سوريا واحدة، أو عراق واحد، أو لبنان واحدة، وكذلك ليبيا، واليمن والسودان، فكلّ هذه الدول، تقلّصت فيها إمكانيات الدولة، وقدراتها على السيادة على الأرض والمعابر، أو احتكار العنف والسلاح، وكذلك، وحدانية الشرعية، التي باتت تعاني أيضاً التعدد بين الأطراف المتنازعة.

إن فكرة الشعب أيضاً أصبحت في مرمى الحرب، وهي في الأساس كانت تعاني هشاشة، لكنها لم تكن يوماً بهذا الضعف، أو التفتيت، فما نراه ونلمسه في سلوك أبناء بعض شعوب المنطقة، هو ممارسة جماعات، إذ يغلب الانتماء إلى الجماعة المناطقية والدينية والمذهبية على الانتماء الوطني، بل يحدّد الانتماء للجماعة الولاء السياسي، والأمر يبدو «طبيعياً» قياساً إلى ما تعانيه الدولة من ضعف وتراجع عن أداء وظائفها السيادية والخدمية والرمزية، في منطقة، لم يتسنَّ لها الدخول بشكل عملي في الحداثة، وبقيت تراوح على أعتابها، تمضي خطوة إلى الأمام وألف خطوة للوراء.

لا تقبل فكرة الشعب أن ينازعها أي ولاء آخر، فهي فكرة سياسية بامتياز، لا أكثرية ولا أقلية فيها، وعندما تتراجع السياسة عن دلالاتها العمومية، وتصبح لصيقة بجماعة دون غيرها، لا يعود بالإمكان الحديث عن شعب بالمعنى السياسي، بل عن جماعات ساعية لفرض منطقها ومصالحها وأمنها الخاص، حتى لو كلّف الأمر، وهو كلّف، وسوف يكلّف، الدخول في حروب مع جماعات تنتمي إلى «الشعب» نفسه، عبر تحالفات عابرة للحدود الوطنية، من خلال تبني سرديات دينية أو عقائدية أو سياسية مشتركة.

إن القول بوجود خشية من اتساع مساحة الحرب لتشمل الإقليم كله، أصبحت من الناحية العملية وراءنا، فكلّ الأطراف منخرطة بهذا القدر أو ذاك بالحرب، ولا يعني الانخراط التورّط العسكري المباشر بالحرب، بل لعب دور في تغذية أطراف متحاربة، لكن، حتى بالمعنى المباشر، فإن الوقائع الأخيرة المتعلّقة بردّ إيران على اغتيال قادة في «الحرس الثوري» في قنصليتها في دمشق، يعني انخراطاً مباشراً من قبلها في الحرب ضد إسرائيل، وكذلك فإن فعل الاغتيال الإسرائيلي يقع في التصنيف ذاته، وأيضاً الرد الإسرائيلي على الرد الإيراني، ولذلك، فإننا نشهد مستوى أعلى اليوم من اتّساع الحرب ومباشرتها، ليس إلا حلقة أخرى من حلقات ستمتّد، طالما أن البنى الأساسية للأنظمة السياسية، تجد أن الحرب وحدها كفيلة بديمومة مصالحها.

إن الخطر الملازم للحرب في المنطقة، لا يكمن فقط في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية والإنسانية، بل أيضاً في كونها تستثمر وتنحاز للبنى والمفاهيم الدينية والعقائدية، على حساب ضرورات العلمنة السياسية، وخصوصاً الدولة والمؤسسات والشعب، من دون أن توجد أية مقوّمات للمضي قدماً نحو تفاهمات لأمن واستقرار المنطقة، على الرغم من وجود ضرورة بالغة الأهمية ل«وستفاليا» شرق أوسطية، تخرج المنطقة من حروبها، وتضع حدّاً لانتهاك سيادة الدول، وتجد حلولاً للقضايا العالقة، وتعيد إنتاج منظومات علمانية، تضع الديني والعقائدي في مكانه الوجداني والروحي، وتبعده عن ساحة الاستثمار السياسي، أو جعله مادة لتغذية الصراعات.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد