من المتعارف عليه أنّ كل هوية بصرية تعتمد في مفهومها ومخرجاتها على أغراض تسويقية هدفها ربط المجتمع بها عاطفيًّا، وتنتابني كثير من التساؤلات عند رؤية أي هوية بصرية تابعة لجهة حكومية أو خاصة، وأجدني مندفعًا لفكّ رموز كل هوية ودلالاتها، وفهم معانيها، وبين هذا الزخم الوافر من الرموز أكاد أجزم أنّ هوية يوم التأسيس هي الأجمل، والأعمق، والأقدر على ملامسة وجدان كل مواطن.
وتزامنًا مع احتفال السعوديين بهذا اليوم الذي يربطهم بعمقهم الوطني منذ ثلاثة قرون تقريبًا، سنتوقف قليلًا عند رموز تلك الهوية وما تحمله في طياتها من دلالات ومعانٍ، وروابط عميقة ترسّخت جذورها منذ بزوغ فجر الدولة السعودية الأولى وعاصمتها التاريخية الدرعية.
فالراية إشارة تحكي سلسلة أمجاد وبطولات السعوديين بقيادة أئمة الدولة، منذ أول راية رُفعت في عهد الدولة السعودية الأولى عام 1727م. ويجسّد العلم السعودي بأصالته الامتداد للإرث العربي، وتتمثل هويتنا الوطنية السعودية في لونه الأخضر، وشهادة التوحيد التي تصور نهجنا القويم منذ ثلاثة قرون مضت، ولقد كان صدور الأمر الملكي باعتماد يوم 11 آذار (مارس) من كل عام يومًا خاصًّا بالعلَم السعودي تخليدًا لهذا العمق التاريخي الممتد من الدرعية. فيتجدَّد الشعور بالفخر والانتماء؛ لما يحويه من دلالات عظيمة تشير إلى الوحدة الوطنية، ويزداد الارتباط الوجداني بين الأجيال التي توارثت هذا الارتباط منذ اللحظة التي رفرف فيها البيرق للمرة الأولى بعد توحيد شبه الجزيرة العربية على الخيول العربية.
وهي ثاني ما لفت انتباهي في تلك الهوية؛ الخيول العربية التي ترمز إلى فروسية وبطولة أئمة الدولة السعودية الأولى، فقد تملّك الإمام سعود بن عبدالعزيز ثالث أئمة الدولة السعودية الأولى نحو 1400 من الخيل العتاق، وكان إنفاقه سخيًّا على إسطبله الذي يعدّ من أكبر الإسطبلات الملكية في القرن الثامن عشر الميلادي موزعًا ذلك الإسطبل بين العاصمة الدرعية والأحساء، يملك فيه أجمل وأجود الأمهار العربية الأصيلة، وأصدر أنظمة للتعامل مع تلك الخيول، ولم يكن يدَّخر المال لاقتناء أجود أنواع الخيول، فدفع مبلغًا يساوي 600 جنيه إسترليني ثمنًا لفرسٍ واحدة، ويكفي لتخيُّل حجم ما لديه من خيول أن نعرف عدد فرسانه الذي يصل إلى 600 فارس للتعامل مع تلك الجياد، كان ينتقيهم من فرسان شبه الجزيرة العربية.
وفي ذلك يقول بوركهارت وهو أحد أشهر المستشرقين الأوربيين في القرن الثامن عشر الميلادي، الذين زاروا شبه الجزيرة العربية: “كان لدى الزعيم السعودي سعود (الإمام سعود بن عبدالعزيز) فرس مفضَّلة اسمها كريع (كريعة) يركبها دائمًا في حملاته العسكرية حتى أصبحت مشهورة في جزيرة العرب كلها”.
ومن أيقونات هوية يوم التأسيس المجلس؛ وهو أبلغ تعبير عن الوحدة والتناغم المجتمعي والثقافي، وهو من أبرز سمات الحكم في الدولة السعودية، وقد بدأت الدولة السعودية الأولى تطبيق هذا التقليد من عهد الإمام المؤسس محمد بن سعود، فكانت لديه مجالس متعددة في الدرعية فقط، على سبيل المثال مجلس القصر الذي يتضمن عدة جلسات للقضايا العامة، والعلمية، والاجتماعية، والأخيرة لاستقبال الشعب وقضاء حوائجه، ومن منطلق إدراكه أهمية المجلس خصَّص في قصر سلوى جزءًا رئيسًا بلغت مساحته خمسين سارية وشغل ثلاثة طوابق وشرفة، وهذا الأمر يعكس العناية التي يوليها الإمام للمجلس.
ولم يقتصر المجلس على الجوانب السياسية والعلمية فحسب، بل كان هناك مجلس في سوق الموسم، الذي كان أشبه ما يكون بمجلس اقتصادي، فكان للإمام مجلس يومي يعقده في سوق الموسم مع شروق الشمس يجتمع فيه أفراد المجتمع في العاصمة، يتابع فيه التبادل التجاري للدولة السعودية الأولى والحركة التجارية النشيطة، حيث تأتي البضائع من مناطق شتى من خارج شبه الجزيرة العربية من فارس والعراق والشام وغيرها، ولم يكن الجانب العلمي غائبًا في ذلك المجلس الاقتصادي الكائن في سوق الموسم الذي يضم موسمًا للرجال وآخر النساء في كل جانب، وتتعالى فيه أصوات المبايعات في قوة شرائية لا يمكن وصفها.
وبخطٍّ مستلهم من المخطوطات السعودية في الدرعية تبرُز هوية يوم التأسيس؛ حيث اشتهرت الدرعية في عزّ مجد الدولة السعودية الأولى بجماليات المخطوط السعودي والخط العربي برعاية الإمام، حيث كانت وما زالت الدرعية منارة إلهام وعلم وثقافة، فقد ظهر عددٌ من الخطاطين البارزين الذين تركوا لمساتٍ راقيةً في مجال الزخرفة والكتابة والنسخ، وتأثروا بمدارس الخط وفنون الزخرفة في شبه الجزيرة العربية، وأثروا فيما بعد فيها وفي خارج شبه الجزيرة العربية. فاشتهرت في الدرعية مهنة الوراقة وصناعة الأحبار في ظل تشجيع من الأئمة بإجزال العطاء للخطاطين، وتشجيع البارعين في الخط لخلق روح المنافسة والتسابق في طلب العلم، فانتشر المخطوط السعودي بأنامل أبنائه من الرجال والنساء، فقد نافست المرأة آنذاك أشقاءها الرجال في هذا الفن، وبرز فيه عددٌ من نساء الأسرة السعودية المالكة ونساء الدرعية، مما أسهم في غزارة العلم وانتعاش التأليف، وهو ما أشار إليه بوركهارت فذكر "أنّ مكتبة سعود (الإمام سعود بن عبدالعزيز) هي أغنى المكتبات في ذلك الزمان بالمخطوطات العربية السعودية، وهي مكتبة الأئمة في الدرعية من الإمام المؤسّس محمد بن سعود ومن بعده من الأئمة ".