بعد أن انهارت الثنائية القطبية في السياسة الدولية، وحلّت محلها أحادية القطب بعدما تم تفكيك الاتحاد السوفييتي، وانتهاء حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والمعسكر الغربي. فقد ركزت روسيا اهتماماتها على قضاياها الداخلية وبخاصة معالجة أزماته الاقتصادية.
وقد تميزت هذه المرحلة أيضاً بانتهاء عصر الإيديولوجيا وسقوط كافة الأنظمة الاشتراكية. وقد رافق ذلك تزعزع الاقتصاد، ولا سيما في تنظيم العلاقات بين رأس المال والعمل. ومن هنا ظل العالم بعدها قابعاً تحت هيمنة نظريات الغرب الاقتصادية. وقد نجم عن ذلك احتكار الثروة الدولية والمال الدولي في أيدي الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وكذلك النفوذ على المؤسسات المالية الدولية، ما أثمر عن تكوين منظمة الدول الصناعية السبع الكبرى تكريساً لتلك الحقيقة الغابرة.
غير أن انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة قد جعل للعالم وجهاً واحداً فقط هو الوجه الرأسمالي، وفي أواخر التسعينات من القرن الماضي ظهرت ما يسمى «النمور الآسيوية» وهي مجموعة من الدول التي أدخلت التصنيع في خططها التنموية، ونجحت، إلى حد بعيد، في إثبات وجودها كقوى اقتصادية دولية جديدة. ورغم أن بعض تلك النمور قد سقط في هوة الأزمة المالية التي ضربت تايلاند وماليزيا وإندونيسيا، لكنّ دولاً أخرى نجحت في عبور الأزمة وتابعت مسيرتها مثل: اليابان وكوريا الجنوبية والصين. وكانت الهند في سنوات الحرب الباردة أقرب سياسياً إلى الاتحاد السوفييتي، حيث تعتمد عليه في تأمين السلاح، وبعد الحرب بين الهند وباكستان في ستينات القرن الماضي، وتهديد الصين بالتدخل لدعم هذه الأخيرة جعل الهند تسارع إلى الاستنجاد بالاتحاد السوفييتي الذي قدم لها الكثير من الأسلحة المتطورة، وخصوصاً في المجال النووي.
وكانت الهند تتبع نمط التخطيط الاقتصادي، وتكامل جهود القطاعين العام والخاص، لكن في مطلع التسعينات من القرن الماضي خضع الاقتصاد الهندي إلى إصلاحات اقتصادية، ما أدى إلى حقبة جديدة من العولمة والتكامل الاقتصادي الدولي. وتسارع ارتفاع النمو في الاقتصاد الهندي وخاصة في ميدان التكنولوجيا المتقدمة. ويشكل المثلث الذهبي «حيدر أباد- مدراس» العمود الفقري الهندي في مجال البحث، والتطوير، والعلم، والتكنولوجيا. وأصبحت الهند اليوم قوة اقتصادية عالمية جديدة.
ووفقاً لبيانات البنك الدولي الصادرة حديثاً، فقد احتلت الهند المركز الخامس في ترتيب أقوى عشرة اقتصادات في العالم، وبناتج إجمالي قدره ثلاثة تريليونات وأربعمئة مليار دولار. وجاءت الصين، وهي دولة ناشئة جديدة، في المركز الثاني في العالم. وبناتج إجمالي قدره سبعة عشر تريليون دولار وتسعمئة وأربعون مليار دولار، واحتلت روسيا، وهي قوة عالمية جديدة، المركز الثامن، وبناتج إجمالي قدره تريليونان وثلاثمئة مليار دولار. وجاءت اليابان في المركز الثالث وبناتج إجمالي قدره أربعة تريليونات ومئة وسبعون مليار دولار. واحتلت ألمانيا المركز الرابع بناتج إجمالي قدره أربعة تريليونات دولار، ثم تلتها بريطانيا وفرنسا ثم كندا وبعدها إيطاليا.
وكما نرى فإن الصين سبقت غالبية دول مجموعة السبع باستثناء الولايات المتحدة، بناتجها القومي الإجمالي، وأما الهند فقد تقدمت كثيراً على دول أوروبية راسخة في ميدان التصنيع، ولا سيما بريطانيا التي كانت تستعمرها في الماضي. في حين أن روسيا أثبتت أيضاً، رغم الحرب التي تخوضها في أوكرانيا، بأن تستطيع أن تكيّف نفسها مع واقع الحرب لتستمر في مسيرة نموها الاقتصادي، رغم المقاطعة الاقتصادية الأوروبية والأمريكية لها.
لا شك أن هذه البيانات الاقتصادية المقدمة من قبل البنك الدولي، تدل دلالة قاطعة على انزياح الثروة العالمية نحو الشرق، وإذا أضفنا دولاً أخرى في الشرق مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وأندونيسيا وفيتنام وتايلاند، يتبين لنا أن الغرب لم يعد هو القوة المهيمنة على الثروة العالمية، بل بات الشرق شريكاً فيها، ولعل هذا ما يفسر ظهور مجموعة «بريكس» وعجز الولايات المتحدة عن استخدام نفوذها الاقتصادي أو السياسي في ترغيب أو ترهيب أعضاء تلك المجموعة، حيث تعلم واشنطن علم اليقين أن هذه المجموعة خصم كبير من رصيدها الاقتصادي والسياسي، وأنها تعد أول الغيث في الفرار من هيمنة الولايات المتحدة، بعد أن أدركت هذه الدول معضلة نشوء القِوى العظمى وسقوطها، بما لهذه المعضلة من سرعة متغيرة في التنمية والقيم الأخلاقية، وللغائية والأنانية الممجوجة بصورة الفناء، من خلال الصدام في السياسة الكونية المعاصرة، ونشوء القوى العظمى وسقوطها، وطمس دور الإنسان الفرد في سفر الواقع المحزن في السلوك، والهدر في دعائم الاقتصاد والأهداف الحيوية والتنموية.
إن قراءة الواقعين السياسي والاقتصادي الحاليين تؤكد قرب أفول نجم القطب الأوحد المتمثل في الولايات المتحدة، خاصة بعد انكفاء السياسة الأمريكية، وفشلها في العديد من الملفات الشائكة في الشرق الأوسط وأوكرانيا، وخروج العديد من دول إفريقيا عن طوع حلفائها. فهل تشهد السنوات القليلة القادمة أفول القطب الأوحد، أم تشهد بروز قطب جديد كالصين، أم عودة القطب الثاني في صورة الوريث الروسي الشرعي؟