: آخر تحديث

التقاليد المتغيرة

7
7
6

تبدأ اليوم فعاليات مؤتمر "ديناميكية التقاليد" الذي تنظمه أمانة منطقة الرياض مع الهيئة العالمية لدراسة البيئات التقليدية IASTE وهو مؤتمر مرتبط بجامعة "بيركلي" الأميركية، وكانت بداياته منذ أربعة عقود تقريباً. أذكر أنني تعرفت على هذا المؤتمر لأول مرة عام 1990م، عندما انتبهت أن أستاذي المشرف على مشروع تخرجي في مرحلة البكالوريوس، وهو أستاذ تركي اسمه شهاب كاكن قدم بحثاً عن مشروعي كأحد التوجهات لاهتمام التعليم المعماري في تلك الفترة بدراسة البيئات التقليدية، وقد كان المشروع عن إعادة أحياء المنطقة التاريخية في قرية الجبيل بالأحساء. يجب أن نشير إلى أن فترة الثمانينات كانت تهيمن عليها مدرسة التقليدية الجديدة التي ارتبطت بوشائج قوية مع ما بعد الحداثة. فكرة المؤتمر نشأت في الأساس نتيجة لذلك المد الطاغي لأفكار المحلية في العمارة والدراسات التي تراكمت حول البيئات التقليدية وأهمية دراستها وإعادة التفكير حولها. إذاً نحن أمام حدث له تاريخ ومنتج تراكمي وتعامل مع قضايا مرتبطة بالتقاليد وعلاقتها بالعمارة على مراحل زمنية حدثت خلالها تحولات كبيرة في المزاج المعماري.

ربما هذا يفسر عنوان مؤتمر الرياض الذي يحمل كلمتين قد يجد البعض صعوبة في الربط بينهما، فالتقاليد تعني الثبات والانتقال بالتوارث عبر الأجيال، بينما كلمة "ديناميكي" تعني المتغير وغير الثابت، وهذا في حد ذاته يتحدى بشكل مباشر أغلب التعريفات التي ترى أن "التقاليد" تشبه النظام وأنها تعمل على تنظيم حياتنا وقراراتنا المعمارية بشكل أو بآخر. جمع النقيضين في عنوان مؤتمر بهذا الحجم يجمع المهتمين والخبراء في دراسة البيئات التقليدية من مختلف أنحاء العالم يشير إلى واقع الحياة اليوم، الذي يصعب فيه الاتكاء على "ثبات التقاليد" لفترة طويلة، ففي حين أن وجود تقاليد مؤقتة يعتبر ضرورياً، إلا أن حتمية التغير أصبحت جزءاً من "ديناميكية" الحياة في وقتنا الحاضر، وصفتُ هذه الظاهرة في السابق بالثبات النسبي عندما كنتُ أتحدث عن أحد مبادئ التراث الموازي الذي يعزز من فكرة "ديناميكية التقاليد" ويرى أنها ظاهرة ستهيمن على المجتمعات في المستقبل.

السؤال يدور حول كيف تتغير التقاليد؟ أحد الكتب المهمة التي نُشرت في الثمانينات الميلادية كانت تحمل عنواناً لافتاً هو "اختراع التقاليد"، وهو ما يشير إلى أن هاجس عدم الثبات للتقاليد لم يكن نتيجة التقنية الجديدة ووسائل التواصل الاجتماعي المعاصرة، بل شكل ظاهرة أساسية لفهم التحولات التي مرت بها مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية بصور متفاوتة. لفت ذلك الكتاب الأنظار إلى قدرة المجتمعات على ابتكار التقاليد في كل مرحلة من مراحل التطور التي تمر بها، فمن جهة لم تستطع تلك المجتمعات الاستغناء عن التقاليد التي تنظم علاقاتها الداخلية، وفي الوقت نفسه لم تحافظ على ثباتها بل أدخلتها في حركة تغيير دؤوبة تتناسب مع إيقاع الحياة وسرعة التغير فيها. المؤتمر يركز على التغير في مفهوم بنية التقاليد، فالظاهرة الجديدة هي "عدم التكرار" بينما التقاليد مبنية على التكرار، الجمع بين المتناقضات يشكل معضلة فلسفية حقيقية لكنها معضلة مرتبطة بإيقاع التغير في التقنيات الفائقة التطور.

إحدى الدراسات المهمة حول "ديناميكية التقاليد" في البيئة السكنية قدمها الدكتور يوسف السحيمي (في بحثه للدكتوراة) مؤخراً، وهي محاولة لفهم كيف تتكون التقاليد وأسماها "الكود الثقافي"، وحدد مكونات هذا الكود في فترة تاريخية معينة ثم قام بدراسة هذا الكود أو التقاليد التي حددت البصمة الثقافية للمسكن في حاضرة الدمام. الدراسة بينت أن التقاليد كانت في حالة تغير دائم حتى في مفاهيم "العيب" والممارسات الاجتماعية والتمظهر المكاني الذي ارتبط بتلك الممارسات. حسب هذه الدراسة، يظهر تعريف التقاليد في السابق ملتبساً وغير محدد بدقة، فما هي التقاليد؟ أغلب التعريفات تشير إلى دور التقاليد لكنها لا تحدد ماهية التقاليد ولا تبين كيف تتكون، لذلك قام الباحث بتحديد ثلاثة أركان تساهم في خلق التقاليد في البيئة السكنية هي: "المكان" و"النشاط الثقافي" و"المعاني" التي تنتج عن علاقة النشاط الثقافي بالمكان. وجدت الدراسة أن التقاليد تعكس شبكة معقدة من العلاقات التي إذا تغير أحد أركانها تغيرت البصمة الثقافية للتقليد وهو ما يعني أن المكان المادي المرئي سوف يتغير تبعاً لذلك.

يمكن أن نقول إن مؤتمر أمانة الرياض يثير الكثير من الأسئلة حول قضية تشكل مفصلاً مهماً لفهم الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية في وقتنا المعاصر، فالمجتمعات الساكنة التي كانت تعتمد على الثقافة الجمعية لم يعد لها وجود، وما كانت تؤمن به تلك المجتمعات وشكل تقاليداً امتدت لقرون ويعتقد البعض أن لها دوراً أساسياً في تشكيل الهوية المعاصرة أصبحت مجرد أوهام لا تمت للواقع بصلة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد