لا يختلف أول يوم في العام الجديد عن آخر يوم في العام السابق أو القديم، الشمس تشرق في وقتها المحدد، والهواء ذاته، والأشجار والشوارع والرصيف المجاور للبيت، لكن ما يتغير، أو ما نسعى لتغييره، هو طريقة تفكرينا ونظرتنا للأمور من حولنا، حيث نعمل على إجراء جردة حساب للسنة الماضية، مسترجعين أهم ذكرياتها بأفراحها وأتراحها، وننظر إلى عام جديد بأمل وتفاؤل أن يكون أجمل.
الأمر هنا يشبه إغلاق صفحات مفكرة عام مضى تكاد تهترئ ويعتريها كتابات وملاحظات هنا وهناك، وفتح مفكرة جديدة لامعة بصفحات بيضاء ناصعة لعام جديد، والكل طبعًا يتطلع لملء هذه الصفحات بالإنجاز والعطاء والصحة الجيدة والفرح والسرور.
لكننا، في هذه المنطقة من العالم، وبسبب تربيتنا وأيديولوجيتنا وديننا وترابطنا وعاطفتنا، لا نستطيع أن نعزل أنفسنا عما يجري حولنا، ونعلي فرديتنا على جماعيتنا إن صحّ التعبير، فربما يجب أن أكون سعيدًا بما حققت من نجاح على الصعيد المهني والمادي خلال العام الماضي، لكن هل أنا كذلك بالفعل؟
في الواقع، أنا شخصيا لست سعيدًا، بل يعتصر قلبي الألم تجاه ما يتعرض له أخوتنا الفلسطينيين في غزة من تشريد وتجويع وقصف ممنهج يصل لمستوى الإبادة الجماعية، ولا أستطيع إلا أن أفكر فيهم طيلة الوقت تقريبا، ولا أستطيع في الوقت ذاته أن أنهي الحرب هناك، ربما جل ما أستطيع القيام به تجاههم هو كتابة مقال مثل هذا أبدي فيه تعاطفي معهم وحزني عليهم.
لقد احتفلت برأس السنة الميلادية كعادتي كل عام، وكما احتفلت البحرين والمنطقة والعالم كله بهذه المناسبة، لكن الفرحة باستقبال العام الجديد كانت ناقصة بالفعل، وأعتقد أن كل إنسان لديه أدنى شعور بإنسانيته يشاركني هذه المشاعر.
دعونا نسأل أنفسنا: ما هي المشاكل التي وجدت لها البشرية حلولا في العام 2023؟ لقد خرجنا من جائحة كورونا، نعم، لكننا دخلنا في متاهات أخرى مختلفة، والمضحك المبكي أننا لم نعلم درس تلك الجائحة، لم نتعلم أهمية أن نقف متحدين كبشر وأن نتعاون لنواجه التحديات التي تعصف بنا، بعد أن رأينا بأم أعيننا كيف يمكن لفيروس صغير أن يهدد حياتنا ويحبسنا في منازلنا ويعطل حياتنا.
بل على العكس، اندلعت الحرب الروسية في أوكرانيا، وانقسم العالم إزاءها، واستمرت الحرب حتى أرهقت جميع الأطراف رغم مكابرتهم وادعائهم النصر، وفضلا عن آلاف الضحايا ومئات آلاف أو ملايين المشردين، تأثرت كل أوروبا بهذه الحرب، ووصل ضررها حتى إلى البيئة، ومن الأمثلة على ذلك قيام دول أوربية كانت تحمل لواء حماية المناخ بفتح مناجم الفحم مرة أخرى وتقديمه لمصانعها كوسيلة للطاقة بديلا عن الغاز الروسي!.
الحرب في اليمن لم تضع أوزارها أيضًا رغم كل المحاولات والمبادرات التي تبذلها دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة المملكة العربية السعودية، ولا زال الحوثي يتمنع ويرفض أي مبادرة عادلة للحل، بل إن حرب إسرائيل على غزة فتحت له بابًا جديًا ليقول أنا هنا من خلال ما ينفذه من أعمال ضد سفن الشحن التجارية في مضيق باب المندب.
العام 2023 شهد أيضًا اندلاع الحرب الدامية في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل الماضي، وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن ما لا يقل عن 7.1 مليون شخص نزحوا منذ بداية النزاع المستمر، لجأ 1.5 مليون منهم إلى بلدان الجوار. وقُتل في الحرب أكثر من 12 ألف شخص، كما كان للكوارث الطبيعية نصيب، ولا ننسى زلزال تركيا وسوريا، وانهيار السدين في مدينة درنة الليبية، كما اعتُبر عام 2023 أيضًا، الأكثر سخونة منذ بدء تسجيل بيانات درجات الحرارة في عام 1880. وشهد الكوكب خلاله سلسلة من الكوارث المناخية، من باكستان إلى القرن الإفريقي مرورا بحوض الأمازون.
ننتظر هذا العام انتخابات أمريكية لا يمكن أن نعول عليها شيئا، بل ربما تؤدي إلى تعميق الشرخ الاجتماعي والاقتصادي داخل الولايات المتحدة نفسها، كما أن الأحزاب والجماعات اليمينية المتطرفة لا زالت تكسب المزيد من الساحات والتأييد في الكثير من الدول الأوربية، أما الصين فلم يعد زخم نموها الاقتصادي كما كان سابقا، وجنوب شرق آسيا لم يعد براقًا للاستثمار كما كان، البرازيل والأرجنتين وباقي دول قارة أمريكا الجنوبية لديها ما يكفي من المعاناة مع التضخم، والهند ترزح تحت نمو سكان يكاد يستهلك كل المكتسبات التنموية، أما باقي مناطق العالم فلا تبدو أفضل حالا.
ليست رأس السنة الميلادية مناسبة دينية برأيي، لكن لا بأس من الابتهال إلى الله تعالى بأن يحل السلام، وأتوقف هنا عند البابا فرنسيس الذي استذكر في صلواته ضحايا الصراعات في مختلف أنحاء العالم، وقال: «فليراجع مَن لهم مصلحة من هذه الصراعات ضمائرهم». وأعتقد في الواقع المسألة أكبر من ذلك، أكبر من مخاطبة الضمائر، وأنا أؤكد لقداسة البابا أن معظم السياسيين وقادة الحروب وحتى المجرمين والقتلة الذين تتلطخ أيديهم بالدماء ينامون وهم مرتاحي البال، بل ربما يضيقون ذرعًا بالأخلاق والأعراف والقوانين التي ربما تحد من رغبتهم في البطش والقتل.
تبقى الخليج العربي، هذه المنطقة من العالم، تحظى - بحمد الله - بمعدلات تنمية مرتفعة، بل أصبحت قبلة ووجهة لكل الراغبين بالاستثمار والازدهار والعيش بأمان والتطلع نحو المستقبل، أصبحت الرمال هنا بيئة خصبة للأفكار والمشروعات العملاقة، وواجبنا، كل في مكانه وبقدر إمكاناته، أن يدعم هذه التوجهات ويسهم في تسريع مسارات التنمية.
أنا واحد من أصل نحو 8 مليارات نسمة في هذا العام استقبلت العام الجديد آملا بالسلام، وحل النزاعات، والقضاء على الجوع والمرض، وأن نتمكن من «نعيش مع بعضنا البعض بسلام بدلا من أن نهلك جميعًا كالحمقى»، كما قال مارتن لوثر كينغ، وسأحافظ على تفاؤلي رغم كل شيء، أنا إنسان متفائل بطبعي، ولا بد أن أكون متفائلا وإيجابيا، وأسأل الله تعالى أن يجنبنا مزيدًا من الآلام والمآسي والحروب في العام القادم، وأن يكون عام سلام وازدهار ورخاء على البشرية جميعًا.