يعيش الانسان، منذ أن تنفست الكرة الارضية بالحياة، بموازاة الحيوان، والمشترك بينهما هو اساس الحياة، والفارق بينهما مجرد قدرة على التفكير استفرد بها الانسان بملكة العقل، والعقل أُسُّ الخير والشر.. أسٌّ ليس في عالم الحيوان. وهذا الأُسُّ عنده ابتكارات وصناعات عديدة يتحدي بها قانون الطبيعة، والعبودية هي اول ابتكار للانسان، صنعها من بذرة الانانية بغية الاستفراد بلذة العيش على حساب الآخرين.. أول ابتكار وأبشع صناعة، ومازالت الصناعة رائجة بيد الاقوياء ولكن في أشكال مختلفة وبدرجات متفاوتة حسب الزمان والمكان. العبودية صناعة، بأي وجه كانت وفي اي مكان كانت، وهي خزي الانسان الذي جاء به الانسان على الانسان، ومخازي الانسان على نفسه كثيرة والعبودية ابشعها بل وأنجسها. السيد والعبد في حكم الطبيعة انسان لا فرق بينهما، بينما حكم الانسان أن السيد في مكانة الآلهة والعبد في زرائب الحيوان.. هكذا الفرق النوعي بين قانون الطبيعة وقانون الانسان، وهما نقيضان، ومن هذا التناقض يتولد مآسي الانسان ومعاناته مع نفسه في شكل صراع دائم بين السيد والعبد، بين المُسْتَغِلِّ والمُسْتَغَّل، بين الظالم والمظلوم، بين المُسْتَبِدِّ والمُسْتَبَدِّ.
هذا هو لسان حال رواية «زرايب العبيد» بقلم الأكاديمية والاديبة الملتزمة بقضايا الانسان الدكتورة نجوى بن شتوان، تكشف فيها عن صفحة من تاريخ العبودية في وطنها ليبيا، في الفترة الانتقالية بين الهيمنة العثمانية والاستعمار الايطالي. الرواية ليست من أنامل خيال يلقنها الذهن المجرد لرسم صُوَرَ العبودية في احدى زرايب العبيد التي كانت منتشرة في ليبيا في الحقبة العثمانية، بل انها توثيق، في صيغة رواية، لحقائق مستمدة من أرض الواقع. واقع العبودية في ليبيا توريها ذكريات منقولة عَمَّنْ حُشِرَ في زرائبها كالحيوان، بل وأبشع من الحيوان، بفارق الاحساس بجرح الكرامة، وصور التقطتها كاميرات تؤكد روايات الذكريات.
صورة من بين صورٍ كثيرة تظهر زرائب العبيد قرب البحر في منطقة الصابري والزريريعية في ضواحي مدينة بنغازي، أثرت في الدكتورة نجوى بن شتوان وجعلتها تبكي كلما أمعنت النظر في الصورة. في حوار مع المذيعة فالنتينا فينه على قناة قنطرة تتحدث عن الزرائب وقصتها مع الصورة: «الزرائب هي مكان احتجاز الحيوانات أيضاً. هذا المكان أثار فضولي. أردت معرفة ما إذا بقي جزء من هذا التاريخ، عن طريق كبار في السن عاشوا هناك وبقوا على قيد الحياة ويمكنهم إخباري المزيد. لم أتمكن من التقاء أي أحد وُلد أو قضى طفولته هناك. الزرائب اختفت ولم يعد هناك أي أثر لها، باستثناء بعض الصور التي التقطها الإيطاليون قبيل غزوهم ليبيا، ومرة أخرى بعد أن قامت القوة المحتلة بمسح شامل للمنطقة. طلبت نسخة من هذه الصورة. أتذكر حفظ الصورة على حاسوبي وتحويلها إلى خلفية لسطح المكتب. استمرت هذه الصورة في شدّ انتباهي. كان مضمون الصورة بسيطاً، ولكن كان هناك شيء يجذبني إليها ويغزو روحي». هذا التأثير العاطفي - الانساني صعدت حرارته الى مركز التفكير والتامل عندها الى درجة انها قررت تغيير رسالتها للدكتوراه من «القضايا المحيطة بتعلم اللغة العربية كلغة أجنبية» الى «تاريخ تجارة الرقيق في الحقبة العثمانية».
رسالتها للدكتوراه، بعد قرار التغيير وقبول الاستاذ المشرف على الرسالة، كانت القاعدة المعرفية لرسم الخطوط الاجتماعية والتاريخية لرواية تكشف المسكوت عنه دهرًا، وتفضح الممارسات اللا انسانية التي كان الابرياء من الناس يتعرضون لها، ويهدرون كرامتهم ويعاملونهم بقساوة أشد من معاملتهم للحيوانات، وقد حشروهم في زرائب حيوانية لا تليق بالانسان، وكانوا ينادونهم بالعبيد، أي المملوك، مثل أي بضاعة، يباع ويشترى في أسواق النخاسة، والمشتري، حسب العرف الاجتماعي وقوانين السلطة، له كامل الحق في معاينة وفحص أعضاء البضاعة البشرية بكل وقاحة ودون ادنى ذرة من الحياء، يلمس ويضغط ويمسح ويلوي، ليتأكد من سلامة البضاعة، وهذه كانت اجراءات بيع وشراء العبد او العبدة. هذه المسرحية المخزية كانت ماثلة في ذهن الكاتبة، بعد ان درست تاريخ تجارة الرقيق في ليبيا في الحقبة العثمانية، وهي ترسم خطوط الرواية وتصيغها بشخوصها وأحداثها وحبك العلاقات فيها، والافكار والمشاعر التي كانت تتملك السادة والعبيد وبقية الناس حولهم.
الانسان الذي شرعن العبودية لا بد من كسره من داخل بيته، وهذا من طبيعة الانسان في صراعه مع نفسه بين الخير والشر، بين ما هو طبيعي وما هو شاذ، وقد رأت الكاتبة متنفسًا في هذا الصراع الازلي بين الانسان والانسان، فاستعانت بالحب لكسر العبودية من داخلها، وحبكت قصة حب بين سيد وعبده، بين مالك ومملوك، وهما في الرواية السيد محمد والعبدة تعويضة. وما هذا الحب بجديد فاعظم قصص الحب في التاريخ تحكي عن الحب الذي جمع بين سيد وعبده، وغني وفقيرة او فقير وغنية، وبين ابن سلطان وفتاة من عامة الناس.. إنه الحب الذي يُثَبِّتُ قانون الطبيعة ويجتث من الجذور قانون الانسان المناهض لقانون الطبيعة، والحب لا يعترف بجميع الفوارق بين الانسان والانسان، فلا قبلية ولا طائفية ولا عنصرية ولا طبقية ولا عبودية.
هذا الحب المحرم على السادة كشف عن الروح الاجرامية في النفوس التي تعيش على وتتلهى من خيرات العبودية. بعد ان عرف الابوان أن هذا الحب المحرم على ابنهما السيد محمد قد أثمر إنسانًا في رحم العبدة تعويضة اصابتهما هيستيريا حانقة وقررا وضع حد للحب بقتل الثمر وهو مازال جنينًا في الرحم، وابعاد ابنهما السيد محمد الى مكان بعيد، وتزويج تعويضة بعبد من طبقتها، وهكذا تعود الامور والعلاقات الى بنيتها الشاذة التي تسعد السيد الاب والسيدة الام ويرتاحان من الحب الذي لا معنى له في قاموس وعرف من يشرعن العبودية. سادة العبودية مجرمون بامتياز وأصالة، الى درجة انهم مستعدون ان يقتلوا ابناءهم بدم بارد اذا تمادوا في علاقة حب غير مقبول لدى السيد الاب او السيدة الام. ارادت الكاتبة أن تبين من علاقة الحب بين سيد وعبدة، تحت سقف عرف العبودية، أن الحب هو العنصر القاتل للعبودية، وأن الحب لا ياتي إلّا من خلال التمرد على كل ما هو غير انساني، مثل تمرد بوذا على حياة السادة والملوك في القصور، وقناعته بما هو ابسط وأكثر طمأنة للنفس مع الحب للناس اجمعين.. وهذا هو اعظم درس في الرواية قدمته الكاتبة الى القارئ.
في الرواية فقرة تاريخية قصيرة، تبدو للوهلة الاولى انها عابرة، وهي التي تبين الفرق بين الهيمنة العثمانية والاستعمار الايطالي لليبيا، بينما هي المحطة التاريخية التي كان يتمناها العبيد دون طموح الى الحرية من اثر الخوف، وتعرج بالحياة الاجتماعية الى نهج جديد على الشعب الليبي. جاء السيد الايطالي الاوروبي المسيحي وطرد السيد العثماني الآسيوي الاسلامي، وجاءت مع المستعمر حرية الافراد وتسميتهم باسمائهم ومحو صفة العبد عنهم، فهم كافراد احرار. ما جاء المستعمر الايطالي ليحرر العبيد، ولكن ليمتلك الوطن الليبي كله. تحرير الافراد ليس خطوة انسانية ولا حقوقية اصيلة بقدر ما هو خطوة اقتصادية مع الثورة الصناعية وولادة نظام اقتصادي جديد (الرأسمالية) لا يستقيم نهجه الانتاجي والخدماتي مع زرائب العبيد، بل مع احتياطي بشري حر يسعى الى تامين حاجته المعيشية التي هي بحوزة سادة العالم الجدد، وهي الطبقة البرجوازية التي تتربع على عروش الدول الكبرى وبيدها القرارات المصيرية التي خولتها الى النخبة السياسية. مع هذا التحول النوعي الكبير من سيد من نفس دين الشعب الى سيد من دين آخر، مع فارق محسوس، وهو ان السيد السابق كان يجيز العبودية ويشرعنها، بينما السيد الجديد الغى العبودية ويجرمها، ولكن رغم هذا الفارق النوعي، إلّا أن المشترك بين السيدين هو أن الوطن كله كان ملكاً لهما، أي ان ليبيا كوطن تحولت من هيمنة قديمة الى استعمار حديث. اعتقد أن الكاتبة بهذه الفقرة التاريخية، والتي تتضمن كثيرًا من الحساسيات القومية والعقائدية، قد فتحت باباً أمام القارئ للتفكر والتامل، وكأن الكاتبة تعطي القارئ واجبًا مدرسيًا.
العبودية والحب والحرية، ثلاث عجلات تنقل احمال الرواية من اول الطريق الى آخرها، في رحلة انسانية تتلاطمها امواج العلاقات وتيارات مياهها، وتفاعلاتها وتبعاتها، وموضعها في وسط إرث اجتماعي معقد، وجهود لصون الكرامة وحفظ الحقوق. إحساسي الشخصي وأنا اقرأ الرواية أن لكل قارئ، في الشرق العربي، موضع في شبكة العلاقات التي ترسمها الرواية، وهذه سمة تتميز بها رواية الدكتورة نجوى بنشتوان «زرايب العبيد».. رغم ان روايات الدكتورة بنشوان حصلت على جوائز ادبية عديدة، إلّا أن الجائزة الكبرى هي تقدير القارئ لانتاجها الادبي الملتزم بقضايا الانسان.

