: آخر تحديث

قرطبة

29
22
29
مواضيع ذات صلة

قبل أيام شاهدتُ على إحدى الفضائيات العربية، فيلماً وثائقياً عن مدينة قرطبة، ماضيها وحاضرها، توقف معدّوه عند الأثر العربي الكبير في تشكيل صورتها الباقية إلى اليوم، حيث ما زالت معالم هذا الدور حاضرة، لم يمحها الزمن.

قدّر لي، وقبل سنوات، زيارة ثلاث من أهم مدن الأندلس، قرطبة وغرناطة وإشبيلية، وفي كل واحدة من هذه المدن استوقفتني كما استوقفت وستستوقف سواي، الآثار المعمارية والحضارية العربية، ذات الطابع الشامي تحديداً، التي لا تزال قائمة حتى اللحظة، وكون الحديث هنا عن قرطبة، فمن بوسعه ألا يقف عند الجامع الرائع الذي يحمل اسمها، وما زال حتى اللحظة محتفظاً بطراز العمارة الإسلامية الأندلسية الجميل، ومثل الجامع، ظلّ محيطه من محال وبيوت هو الآخر، محتفظاً بهذا الطابع العمراني العريق، وأنت تتجول في الطرقات الضيقة التي تطل عليها، ينتابك الإحساس، لوهلة، أنك تتجول في أحد أحياء دمشق القديمة.

في الفيلم تحدثتْ سيدة من أصل فلسطيني متزوجة من قرطبي، وتعيش في المدينة منذ زمن، أقامت صالوناً ثقافياً، سعت فيه إلى الإبقاء على كل ما ميّز بيوت المدينة في ذلك الزمن من أثاث ومقاعد وأماكن جلوس مريح على الأرض، فلا تكاد تشعر وأنت تستمع إليها، أنها تتحدث في تفاصيل الحاضر، إنما الماضي، بكل شحنته الرومانسية.

يرينا الفيلم نصباً تذكارياً، ما زال قائماً حتى اللحظة في ساحة مارتيليه في المدينة، هو «نُصب الحُب»، تخليداً لحب أشهر شاعرين عاشقين في قرطبة، ولّادة بن المستكفي، وابن زيدون، يظهر كفين يكادان يتلامسان، كما تتلامس أيادي الأحبة، وباللغة العربية نقشت أبيات ولّادة في عشق ابن زيدون، وهي التي يضرب بها المثل في مجاهرتها، شعراً، بحبّ من اختاره قلبها: «أغارُ عليكَ من عيني ومني/ ومنكَ ومن زمانكَ والمكانِ/ ولو أني خبأتكَ في عيوني/ إلى يوم القيامة ما كفاني»، لتليها أبيات ابن زيدون في عشقه لها: «يا مَن غدوتُ به في الناس مُشتهرا/ قلبي عليك يقاسي الهمّ والفِكَرا/ إن غبتَ لم ألقَ إنساناً يُؤَنِّسُني/ وإن حضرتَ فكلُّ الناس قدْ حَضَرا»، كما نقش النصان مترجمين إلى الإسبانية.

ليس نصب ولادة وابن زيدون هو الشاهد التذكاري الوحيد على قرطبة يوم كانت تتكلم العربية، وإنما يحضر أيضاً تمثال للفيلسوف العربي الأهم، ابن رشد، ابن قرطبة، المولود فيها، وقاضيها في وقت من الأوقات، رغم أنه مات منفياً في مراكش، لكنه يبقى باني جسر الفلسفة الوطيد ليس بين الفلسفة الإغريقية من جهة والفلسفة العربية الإسلامية من جهة أخرى، وإنما أيضاً الجسر الذي أوصل الفلسفتين معاً إلى أوروبا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد