: آخر تحديث

مضامين الاستراتيجية الألمانية تجاه الصين

15
16
15
مواضيع ذات صلة

صدرت الحكومة الألمانية، في 14 يونيو المنصرم، أول استراتيجية للأمن القومي، بعد أن كانت تقوم بتحديد وتجديد المحاور الأساسية لسياستها الدفاعية كل فترة، عن طريق كتاب أبيض، أقرب إلى كونه مجرد ورقة توجيهية لهذه السياسة. ويُعد ذلك تطوراً جديداً ونوعياً للتخطيط الأمني الاستراتيجي في ألمانيا، أملاه السياق الدولي والإقليمي، وأهم معالمه حرب أوكرانيا، والتهديد الروسي للأمن الأوروبي، والصعود الصيني.

وتُحدد استراتيجية الأمن القومي الألماني ثلاثة أبعاد مركزية للأمن المتكامل، هي: «الدفاع»، و«المرونة»، و«الاستدامة». وتربط الوثيقة أولاً بين تقوية القدرات الدفاعية وبين الدفاع عن السلام والحرية، مشيرةً إلى ضرورة أن تمتلك ألمانيا القدرة على حماية نفسها والدفاع عن حلفائها، وضمان أن المواطنين الألمان يمكنهم العيش في سلام، والتمتع بالحرية والأمن في المستقبل أيضاً.

وفي مواضع عديدة من الاستراتيجية، تظهر انعكاسات الحرب الأوكرانية، لا سيما ما يتعلّق بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وفق ما تعهد به سابقاً المستشار أولاف شولتس، ووفق أهداف حلف الناتو. وتُعَدُّ الرؤية الألمانية للصين من أهم الجوانب التي تناولتها استراتيجية الأمن القومي الألمانية، وهو الأمر الذي فصّلت فيه الاستراتيجية الألمانية الأولى للتعامل مع الصين، الصادرة في 13 يوليو الفائت.

تحمل بنود الاستراتيجية الألمانية تجاه الصين العديد من الرسائل التي ترسم مستقبل العلاقات الألمانية - الصينية، بل أيضاً العلاقات الأوروبية - الصينية. فأولاً، تعمد الاستراتيجية إلى مواجهة الصعود الدولي للصين. فقد بدا واضحاً أن برلين تحاول إجهاض محاولات بكين فرض نظام دولي متعدد الأقطاب تكون فيه قوى عظمى، خصوصاً مع تعارض القيم بين الجانبين. ثانياً، تتعهد ألمانيا بعدم التضحية بعلاقاتها مع تايوان؛ إذ جاءت هذه المسألة بشكل واضح في الاستراتيجية الألمانية، وهو ما يعني أن ثمة تبادل أدوار بين الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا -وتحديداً ألمانيا- فيما يتعلق بهذه المسألة. ثالثاً، تحاول الاستراتيجية إعادة بناء الاتحاد الأوروبي. فقد بدا واضحاً أن ألمانيا تريد قيادة عملية إعادة بناء منطقة اليورو استراتيجياً، وذلك عبر الحد من الاعتماد على الخارج في تأمين مصادر الطاقة وسلاسل الغذاء، حتى لا يمكن استخدامها للضغط والتأثير في الموقف الأوروبي، كما حدث بعد اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية. رابعاً، تؤكد الاستراتيجية عدم فاعلية أدوات الضغط الاقتصادية التي تستخدمها الصين ضد شركائها الأوروبيين وغير الأوروبيين مستغلةً تباطؤ الاقتصاد العالمي عموماً والأوروبي خصوصاً. وتوضح الوثيقة أن ألمانيا تسعى إلى التخلّص من قيود السيطرة عليها، والاقتصادية منها تحديداً، وهو ما يفسر ما تضمنته الاستراتيجية بأن ألمانيا تسعى إلى بناء علاقات اقتصادية «أكثر عدلاً». كما تبين الوثيقة أنّ ألمانيا سوف تواجه الأنشطة الصينية التي تهدد أمنها، وفي مقدمتها أعمال التجسس والتخريب المختلفة بإجراءات حاسمة، ما يعني أن برلين لا تستبعد الصدام مع بكين بمراحله التدريجية. خامساً، تسعى الاستراتيجية الألمانية إلى تفكيك بناء معسكر شرقي ركيزته قارة آسيا، فقد تناولت الوثيقة ما سمّته «التنافس النظامي» مع القوى الآسيوية الصاعدة، والصين بخاصة، والحد من مخاطر التبعية الاقتصادية لها. وأخيراً، توضح الاستراتيجية أنّ هدفها هو الإسهام في بناء النظام الدولي المتعدد الأقطاب وفق القيم الغربية، بحيث تكون فيه دول الاتحاد الأوروبي كتلة واحدة وقوة عظمى، ذات تأثير اقتصادي وسياسي وأيضاً عسكري مستقبلًا. فقد كشفت الحرب الروسية - الأوكرانية عن فقدان أوروبا عموماً، وألمانيا على وجه الخصوص، مقومات قوتها وتأثيرها الاستراتيجي، سواء على المستوى الاقتصادي أو العسكري، ما بدا درساً تحاول برلين الاستفادة منه وعدم تكراره مرة أخرى.

وهكذا فإن الاستراتيجية الألمانية الأولى تجاه الصين يمكن أنْ تدفع إلى مزيد من الاستقطاب الدولي، وغلبة الجانب التنافسي – الصراعي على العلاقات الدولية، ما يهدد الأمن والاستقرار الدوليين، ويمكن أن تقود إلى إعادة تشكيل النظام الدولي وفق أسس صراعية.

والمفارقة أنه بينما تظل العلاقات الأمريكية - الصينية تتراوح بين التصعيد والتهدئة، جاءت الاستراتيجية الألمانية الأولى تجاه الصين لتضفي طابعاً «صراعياً» على العلاقات الأوروبية - الصينية، وترفد أنصار «الحرب الباردة الجديدة» برافدٍ جديد. ويبدو أنه توزيع أدوار أو تنسيق بين الولايات المتحدة وحلفائها فيما يتعلق بمواجهة تنامي الصعود الصيني في السياسة العالمية. فالاستراتيجية الألمانية الجديدة تجاه الصين تهدف إلى مواجهة هذه الظاهرة وغيرها من مصادر التهديد الصينية للأمن الألماني، وتفكيك بناء معسكر شرقي ركيزته قارة آسيا وتقوده الصين، والإسهام في تأسيس نظام دولي تعددي وفق القيم الغربية.
* متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد