: آخر تحديث

عالمنا الخفي

20
19
24
مواضيع ذات صلة

لم نكن يوماً من الأيام لنحاول التأمل والتفكير فيما وراء العديد من حالات التوجس ومحاولة تفسيرها! عالم من الموروثات لم نفهم كنهه يحيلنا كل لحظة إلى التسليم به دون مراوغة، وكأننا قد فُطمنا على فهم تركه لنا الآباء لاتقاء محاولة الغوص فيما وراء هذا العالم من أسرار، وربما لعجزنا نحن عن فهمه وكأن الواحد منا متأهب في حالة ترقب فيما يحدث؟

وربما في هذا العصر الذي يكمن مستقبله في الذكاء الاصطناعي قد تختفي هذه التوجسات برغم استمرارها، إلا أنها في طريقها إلى التلاشي، مما يساعد على ذلك ظهور أجيال يؤمنون بالواقع ولا يعتمدون على علوم الظواهر مهما حاولت إقناعهم فهم جيل التقنية الرقمية التي تحل محل مفاهيم جداتنا التي تركوها لنا ولا غرو أننا نحن هذا الجيل من بدأ بالتمرد على هذه الشذرات من المفاهيم التوقعية المفسرة لما هو غامض وخفي. فكنا أشد قوة في طليعة شرخ حوائط صلدة بالرغم من تمسكنا بها كموروث نحتاجه في علوم ودراسة فنون الموروثات الفينومينولوجية.

و"الفينومينولوجيا" مدرسة فلسفية تعتمد على الخبرة الحدسية للظواهر، كما أن علم الفينومينولوجيا هو "نقطة بداية (أي ما تمثله هذه الظاهرة في خبرتنا الواعية) ثم تنطلق من هذه الخبرة لتحليل الظاهرة وأساس معرفتنا بها. غير أنها لا تدعي التوصل للحقيقة المطلقة المجردة سواء في الميتافيزيقا أو في العلم بل تراهن على فهم نمط حضور الإنسان في العالم. يمكن أن ترصد بداياتها كما يعتبر مؤسس هذه المدرسة هو إدموند هوسرل تلاه في التأثير عليها عدد من الفلاسفة مثل: هيدغر وسارتر وموريس ميرلو وبونتيوريكور، حيث تقوم هذه المدرسة الفلسفية على العلاقة الديالكتيكية بين الفكرة والواقع، فهي مدرسة فلسفية اجتماعية ترجع أصولها إلى القرن التاسع عشر، ظهرت كرد فعل على المدرسة الوضعية. والمفكرون الظاهراتيون ينتقدون الوضعية لأنها تسلم بوجود حقائق موضوعية مستقلة عن الوعي الفردي. وملخص أفكار هذه المدرسة هي أنها تهتم بالوعي الإنساني باعتباره الطريق الموصل إلى فهم الحقائق الاجتماعية، وخاصة بالطريقة التي يفكر بها الإنسان في الخبرة التي يعيشها، أي كيف يشعر".

لقد كنت في مستقبل الشباب وبداية التطلعات للتفوق والسعي وراء المعرفة أرمق على استحياء ما كانت جداتنا يحشون به رؤوسنا من مفاهيم وصور وحواديت ومعتقدات، أذكر ذلك الآن فلا نلبث إلا أن نشكرهن لأنهن بدون ذلك لما استحالت طفولتنا إلى طفولة تافهة وسخيفة. لأنهن صنعن لنا عالماً موازياً لهذا العالم نتخيله ونحياه حياة يوتوبية مفعمة باللذة المتناهية من السباحة في غياهب لا يخالها سوانا.

فعلى سبيل المثال أتذكر في طفولتي المبكرة أن والدتي إذا ما دخل البيت نوع من الدبابير المسالمة يحوم في أرجاء المكان، كانت تُسر أيما سرور، وتهب لترتيب المكان لأنها بكل يقين تدرك أن زائراً ما سيطرق بابنا وهي تردد: عساه خير يا رب.

أن أول التمرد على هذه التنبؤات حينها أن أمسك بهذا الدبور ثم أربط في إحدى رجليه خيطاً واستمتع باللعب معه، بأن أجعله يطير بعيداً والخيط في يدي، وهذا شديد الشبه بما نمارسه اليوم من أننا نمسك بالموروث وبتلابيبه وهو يحلق حولنا لا نتركه يبتعد فالخيط في يدنا؛ لكننا نمارسه بشيء من اللعب والمتعة.

لقد كانت كثير من هذه الصور تُستحضر في الأذهان لربما كانت محاولة منهم لتفسير هذه الظواهر بحدس معنوي لجذب المحسوس إلى عالم الملموس بفطرية متناهية وعلى سبيل المثال عواء ذئب قريب نذير بموت قريب قد نتمناه خارج جدران منازلنا بالرغم الوصية لسابع جار؛ لكن اليقين بقرب الموت تجعلك تفدي ذويك بأي شيء حتى لو كان جارك!، لكن ما يبدد هذا الخوف هو ظهور هدهد يحوم خلف النافذة فيعم السلام الأنفس تيمناً بالبشرى وبالنجاة من كل شر!

كل هذه الصور وغيرها مثل صوت حفيف الأشجار على أطراف الآبار يخيف الصبية كل ليلة اعتقاداً أنه صوت الجن الساكن في عمق هذه الآبار، أو حتى أشجار التين (الحماط) أو الحذاء المقلوب اعتقادا أنه يهين السماء فنسارع بقلبه على وجهته، ويتعدى الأمر إلى ملابسنا إذ يجب أن نعلقها باحترام شديد في معاليقها وبنظام مستوٍ لكي لا تناشدنا يوماً ما عن تهذيبها أو إهانتها، وفي الثقافة المصرية ألا ندع في الطبق شيئاً من الأكل لكي لا يعيق زواج الفتيات وغير هذه الصور، صور تترى تتبعها تصورات ذهنية في محاولة لتفسير ظواهر محسوسة تحيلنا في الأمر برمته إلى عناق الظواهر هذه خشية عالم مجهول وأهمه الموت المتربص على عتبات المنازل الذي ينقض فجأة وبدون استئذان!

يقول المفكر والكاتب الكبير يحي حقي رحمه الله في هذا الشأن : "إننا نفتقد بتجاوز مرحلة الطفولة إحساساً غريباً -هو لذيذ ومخيف- بأن وراء عالم الواقع الذي نعيشه عالم خفي مبهم، يحيط بنا، ويتدخل في حياتنا، ويخاطبنا صراحة أحياناً ورمزاً أحياناً أخرى، إنها خسارة جسيمة لأننا نهبط من الروعة والدهشة والاهتزاز النفسي إلى وجود رتيب وطمأنينة تافهة مقامة على مسلمات اصطلحنا عليها، وقلما نناقشها، وإن بقي صوت ضئيل جداً يهمس لنا بخفوت أن لا ضمان بأنها غير زائفة، ولكنه صوت غير مزعج، إذ إننا درجنا على استراحة لن تأتي أبداً. حتى إذا وصنا مرحلة الرجولة تتبعنا بشغف تحسس العلماء لهذا الواقع الخفي المجهول.

إنه شعار (الفينومينولوجيا) الهوسرلية بالاتجاه إلى الأشياء ذاتها من خلال الوعي البشري الخالص. وبما أن هدف الفينومينولوجيا هو الوصول إلى الماهيات، فقد انتهج هوسرل الايبوخية، أي التوقف عن الحكم ووضع العالم المكاني الزماني بين أقواس. وعدم اعتماد على الاعتقاد الطبيعي لهذا العالم. والتوقف عن اتخاذ أي موقف إثبات أو نفي إزاء وجود الموضوعات.

وفي حضرة المعرفة وتجلي العلوم نجد كل ذلك في طريقه إلى التواري نظراً لانتشار الوعي وحضور المعرفة وزحمة التحليلات العلمية والتجريبية، فأحيانا نشكرها على هذا التجلي، وأحيانا ندعو عليها لأنها حرمتنا وقضت على الغموض، كما قضت أيضاً على جانب كبير من سحر هذا العالم الخفي المجهول الذي عشناه في طفولتنا!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد