: آخر تحديث

نبصر أم نسمع؟

17
16
21
مواضيع ذات صلة

ينسب إلى الرازي قوله «إن السمع سبب لاستكمال العقل بالمعارف، والبصر لا يوقفك إلا على المحسوسات»، وهو قول لا ينطوي على المقارنة أو التوصيف، وحدهما، وإنما قد يحمل شيئاً من المفاضلة، فيكاد يقرن السمع بالمعرفة، ويحصر البصر في ما هو حسّي، أو ملموس مادياً، أي ما تراه العين، وهي مفاضلة قد لا تكون محقة، فالسمع والبصر حاستان تكملان بعضهما بعضاً، وفي حال فقدان الإنسان لأي منهما فإن الأخرى قد تعوض وظيفتها، ولكن هذا هو الاستثناء، وليس القاعدة، وسنجد أن القرآن الكريم استخدم الحاستين على صيغة سؤال، أو استفهام مملوء بالدلالة، فمرة قال: «أفلا يسمعون؟»، ومرة قال: «أفلا يبصرون؟».

السمع مهم للغاية، ولكن البصر، بحكم القراءة، قد يكون ناقلاً للمعرفة على نطاق أوسع، فما يكتب في الكتب يصل إلى دوائر أوسع بكثير من الناس الذي يصلهم القول عبر السمع، وحتى في هذا صحّ، أو حتى وجب، الاستدراك، فمنذ أن ظهر الميكرفون وتلته الإذاعة، وما تلاهما لاحقاً من وسائل بصرية كالتلفزيون، بات للسمع، هو الآخر، دوره الكبير في نقل المعرفة والفنون إلى قطاعات واسعة، لا محدودة، تماماً كما تفعل الكتب والمطبوعات، بل لعل السمعي، في بعض الحالات على الأقل، بات يتغلب على المقروء، أمام الصعود المدوي للصورة على حساب الكلمة.

الأكاديمي اللبناني بسام بركة، وفي مقال له عن «الهوية الثقافية ووجودها»، منشور على موقع «مؤسسة الفكر العربي»، يقف عند مسألة العلاقة بين السمع والبصر، ملاحظاً أن العرب تقول عن الإنسان الذكيّ لديه «نظر ثاقب»، وهذا يدلّ، برأيه، على «إننا نمنح حاسة النّظر مقاماً أكبر من الحواس الأخرى»، بل إن مفردة البصيرة التي تعني بعد النظر وقوة الإدراك مشتقة من كلمة البصر بالذات، ولكنه يلفتنا إلى أن ليس كل الأمم تذهب هذه الوجهة، فثمّة أمم تغلّب السمع على النظر، ومن ذلك أمّة الصين، ويورد مثلاً على ذلك المفردة الصينية: «كونغ مينغ» ومعناها: «يرى بأذنَيْه، أو يُدرك بهما»، ويوصف بها المرء شديد النباهة والحكمة، فهما تسمعان وتبصران.

لا يريد الكاتب المفاضلة بين الأمم التي تقول عن الذكي بأنه «ثاقب البصر» كما هي حال العرب، وتلك الأمم التي تصف الذكي بأنه «يرى بأذنيه» كما هي حال الصينيين، فحديثه أتى في سياق أن لأصحاب كل هوية ثقافتهم ورؤيتهم التي قد تختلف عن ثقافة ورؤية أصحاب هوية أخرى، ولكن هذا لا يعني تناقض الهويات بالضرورة أو تناحرها، كما يريد مشعلو الفتن أن يفعلوا، وإنما يعني أن في تنوع الثقافات إغناء لها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد