: آخر تحديث

نظرة على القادم من باب موارب

12
12
15
مواضيع ذات صلة

قبل ثلاثين سنة، كنا نناقش، بجرأة، سيناريوهات المستقبل، واثقين من أن ما في حوزتنا من معلومات عن تاريخ التطور الإنساني وتجاربنا لا بد أن يسمح لنا باستشراف ما هو آت إلى درجة معقولة.

يقال إن القادم مختلف جذرياً عن كل تجارب الماضي كما عشناه، والحاضر الذي نعيشه، باستثناء أمر واحد. ولا أظن أننا، كمراقبين أو دارسين أو سياسيين، غافلون عن مغزى السؤال الحاكم في كل عصور السياسة وهو «لمن الفوز في السباقات الدائرة هذه الأيام والمتوقعة في الأيام المقبلة؟». السباقات الجارية الآن ليست تطوراً طارئاً في العلاقات الدولية. تتغير الدول، وتتغير توازناتها، وتتغير قياداتها وأنظمة الحكم فيها، وتبقى شاهدة عليها وفاعلة فيها المنافسة بينها، والسعي الدائب للفوز وتحقيق السبق. نعم، عشنا في الماضي، ونعيش في الحاضر شهوداً، أو أطرافاً في هذه التجارب المثيرة، والخطرة أحياناً، ولكن لا يخفى أن هذه السباقات الجديدة تنحو نحواً مختلفاً عن مثيلاتها في الماضي، وعن بعضها، أنظر معي:

*أولاً: ربما أساءت روسيا اختيار وقت غزوها لأوكرانيا، أو لعلها تعمّدت. نعيش، ويعيش أهل القوى العظمى مرحلة سنوات حديّة، بمعنى أن المسؤولين عن هذه الدول هم على وعي جيد بأن لا التساهل، ولا التسامح، مسموح بهما في مرحلة وصلت المنافسة بينهم إلى موقع هو الأقرب بين كل السباقات من خط النهاية. والنهاية في عرف القادة تعني الخروج من اللعبة السياسية نهائياً، وهذا ما عبّر عنه الرئيس، فلاديمير بوتين، بأن الصراع على أوكرانيا ما هو إلا صراع وجود، بعده، أو خلاله روسيا تكون، أو لا تكون. حرب الغرب في أوكرانيا ليست حرباً باردة أخرى ولن تكون، والصين على علم أكيد بأن هذه الحرب خطوة نحو خطوة أهم وأخطر حين تتواجه الصين والولايات المتحدة ليرسما معاً، خريطة جديدة للقمة العالمية، وبالتالي لأجندة قواعد عمل وسلوكات جديدة.

*ثانياً: نحن جميعاً نجد أنفسنا في حيرة عندما نتعرض لاستفهامات تتعلق بمفهوم عدم الانحياز ونوع الانتماء له في عصر مقبل، مختلفة هياكله وقواعد عمله جلّ الاختلاف عن هياكل وقواعد عصر سابق، أو راهن. يسألون فلا نجيب، إلا بعد تردّد. هل يتفق، أو يمكن أن يتوافق، على سبيل المثال، لولا دا سيلفا البرازيلي، مع مادورو الفنزويلي، مع فرنانديز الأرجنتيني، مع بورييك الشيلاني، مع موسيفيني الأوغندي، مع رامافوزا الجنوب إفريقي؟ ليست مهمة سهلة تحقيق اتفاق، أو توافق بين كل هذه الأسماء بتوجهاتها السياسية، ومصالحها، أو إنجازاتها وإحباطاتها التنموية، وروابطها بقطب دولي أو آخر. ومع ذلك، هناك إجماع بين هؤلاء القادة على انتهاج سياسة تبتعد قدر الإمكان عن خطوط تماس، وخطوط تضارب مصالح الأقطاب الثلاثة، وحلفائهم من دون أن يعنى هذا الابتعاد مقاطعة مجمل سياسات هذا القطب، أو ذاك، من أقطاب القمّة، ومن دون أن يعني في الوقت نفسه توقف التنافس داخل مجموعة المنتمين لفكرة عدم الانحياز، وإن كان من الممكن في المستقبل، وحال اختيار قيادة لها، وضع أجندة لقواعد سلوك وشروط التنافس السلمي بينهم.

*ثالثاً: عندنا في الإقليم، وأقصد به العالم العربي، مشكلة تطرح علينا حيرة مماثلة كتلك التي يطرحها المنتمون لفكرة عدم الانحياز. ترددت على مسامعي في الأيام الأخيرة طروحات تلمح إلى أننا سوف نشهد خلال السنوات، وربما الأيام المقبلة، نزوحاً من فكرة وعقيدة الانتماء العربي إلى فكر وعقيدة انتماء أوسع. أسبابهم ومبرراتهم عدة، أذكر منها الحال الذي انحدر إليه العمل العربي المشترك، ومنها، بطبيعة الحال، الهجمة الإسرائيلية الجديدة والشرسة ضد الشعب الفلسطيني، وميوعة رد الفعل العربي.

*رابعاً: استجد تطوران كلاهما بث الرعب في قلوب بعض الناس، والأمل في بعض آخر، وأقرأ الآن عن اهتمام شديد من جانب مسؤولين في الثقافة والصناعة والأعمال والسياسة والعمالة والاستراتيجيات الدفاعية والأنشطة المتعلقة بالأمن القومي، وغيرها من الأنشطة والقطاعات، كلهم مهمومون، أو مرتبكون، أو مُقبِلون بنهم. التطور الأول يقع تحت عنوان الذكاء الاصطناعي وما ولّده بالفعل، ويولده كل لحظة من استخدامات لهذا الإنجاز الخارق للعادة. التطور الثاني يتعلق بأول وآخر ما تفتقت عنه قضية سخونة المناخ، وأقصد الزيادة المتتالية في معدلات ذوبان الجليد في منطقة القطبين، الشمالي والجنوبي. إن استمرت الزيادة فالمتوقع أن تهرع الدول المجاورة والقريبة، وبعضها دول عظمى، لاحتلال مناطق يقال إنها زاخرة بثروات هائلة من المعادن والطاقة.

كلاهما، ذوبان الجليد أو انحساره عن مساحات كبيرة في المناطق القطبية، واطّراد البحث في مجالات الذكاء الاصطناعي، بخاصة احتمال انتقال المبادرة من الإنسان إلى الآلة التي اخترعها بنفسه وهذبها وطورها، كلاهما فتح أبواباً جديدة للمستقبل وتركها مشرعة.

وهناك على بعد غير بعيد، تقف في انتظارنا أيام لا عهد لنا بمثيلاتها، ولا عهد لها بثقافتنا وتطلعاتنا وسلوكاتنا وعقائدنا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد