في مهمة علمية تاريخية - وهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة - انطلق صاروخ «فالكون 9» من مركز كنيدي الفضائي بفلوريدا الأمريكية إلى محطة الفضاء الدولية حاملاً المركبة الفضائية «دراجون، وفي جوفها أربعة رواد فضاء من بينهم رائدان اثنان سعوديان: امرأة اسمها ريانه برناوي ورجل اسمه علي القرني، وكأني بهذا الثنائي السعودي يعبر عن مرحلة جديدة في تاريخ الدولة السعودية لقيت المرأة فيها حظًا أوفر لتتساوى فيها الحقوق بين الذكور والإناث. هذه مرحلة قال عنها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في إحدى المرات لدى سؤال أحدهم عمّا أسماه الدولة السعودية الرابعة بأنها امتداد للدولة السعودية الثالثة. هذه الرحلة الفضائية، كما نعلم، ليست الأولى لسعوديين، فنحن مازلنا نتذكر مشاركة الأمير سلطان بن سلمان والرائد الاحتياط عبد المحسن البسام لطاقم فضائي أمريكي في عام 1985، ولكن هذه الرحلة تبقى مميزة بمشاركة امرأة سعودية عربية لأول مرة. ويأتي هذا الصعود الفضائي كجزء من استراتيجية المملكة العربية السعودية في رؤية 2030، تلك الرؤية الطموحة التي آمنت بالإنسان السعودي وقدرته على صنع المعجزات؛ لنقل السعودية من حال حسنة إلى حال أحسن فأحسن.
كان منظر الرائدين السعوديين بهيجًا ونحن نتابع بالمشاهدة والاستماع للبثوث الحية من قنوات التلفزيون المحلية والعالمية تحية العرب والمسلمين تلقيها بفخر واعتزاز ريانة برناوي على مسامع العالم كله من الفضاء. مساعي الدول العربية وخصوصًا الخليجية في التطوير واللحاق بالركب العالمي جعلت عيوننا تعتاد شيئًا فشيئًا مشاهدة رواد خليجيين يخوضون غمار ركوب الفضاء ليشاركوا دول العالم المتقدمة في البحث والاستكشاف وتحقيق فتوحات علمية تسهم في تحسين جودة الحياة. صحيح أن هذا الصعود إلى الفضاء ليس الأول للخليجيين، ففي انتظار الرائدين السعوديين رائد من دولة الإمارات العربية، سلطان النيادي وهو أول عربي يسير على الفضاء، وصحيح أن التاريخ سيسجل بفخر هذا الوجود العربي الخليجي الكبير في الفضاء، ولكنه يفتح الآفاق أمام طموحات أكبر وآمال أعرض ستُدرك إذا ما نجحنا في التحول الحاسم إلى مجتمع معرفة وصناعة للذكاء، وهو أمر نعلم جميعا أنه لا يكون إلا بمنظومات تربوية رائدة وجريئة وقادرة على أن تزود الناشئة بمهارات التفكير العليا. لا يجب أن نسير على قناعة «الصناعة عندهم والاستهلاك من نصيبنا» فهذه القناعة قديمة لا ينبغي أن تسود بعد اليوم.
هذا الإنجاز السعودي التاريخي له مقدماته الموضوعية التي تعاقبت أجيال تقودها حكومات على تأسيسه وترسيخه في الذاكرة الوطنية ليكون خلفية ثقافية لا بد من الاستناد إليها للانطلاق قُدُمًا إلى الأمام، ولذلك وضعت مختلف الحكومات ثاقب التفكير ونصب العين نقل المجتمع العربي الخليجي من البساطة إلى دول ومجتمعات وفرة وثروة وتقدم تتخذ من العلم نبراسًا لمستقبلها وقِبلة لأبنائها. وكما كل سكان الدول العربية في الخليج العربي، فإن السعوديين لم يتعالوا على ماضيهم وتاريخهم، بل إنهم دأبوا دائمًا على أن يُحدثوا به وعنه أبناءهم بفخر واعتزاز. وإذا نحن نتحدث اليوم عن ركوب وسائل تنقلنا إلى الفضاء نتيجة لتطور العلم، فإننا لا نستحي من القول إن أسلافنا كانوا يمتطون رواحل الإبل في التجارة وقطع المسافات لممارسة التجارة أو لتأدية الواجبات الدينية مثل الحج والوفاء بواجبات التواصل الاجتماعي وصلة الرحم. وتلك كانت مرحلة مهمة من مراحل التاريخ لا تنكرها شعوب دول مجلس التعاون، فهي كانت مرحلة تأسست بعدها كل مراحل التطوير المتأني المدروس الذي بلغته دوله. فاللسعوديين والإماراتيين كل الحق في أن يفخروا بما وصلوا إليه من علم وتقدم، فهم اليوم يستغلون وسائل من صنع الغير ولكنهم بهذه العزيمة والإصرار على امتلاك ناصية العلم لن يكونوا بعيدين عن صناعة هذه الوسائل بأيديهم.
إذًا كما قلنا في صدر هذا المقال، وكما اخترنا له «المهمات التاريخية السعودية» عنوانًا إن هو إلا إيمان منا بأن الصعود إلى الفضاء ليست المهمة التاريخية الوحيدة التي يتصدى لها السعوديون وفق رؤية 2030 التي تسير وفق ما هو مخطط لها، بل إنها مهمة من ضمن مهمات كثيرة ستنقل المملكة العربية السعودية إلى مصاف الدول المتقدمة؛ فمشاركة السعودية دول العالم في البحث عن حلول سلمية لمشاكل دولية كثيرة هي مهمة تاريخية ورؤية 2030 ذاتها مهمة تاريخية ومشروع نيوم مهمة تاريخية والتحولات الاجتماعية المتماشية مع العقيدة والتقاليد مهمة تاريخية، وقيادتها لدول مجلس التعاون أيضًا مهمة تاريخية، وسعيها الدائم إلى توحيد العرب وقطع دابر الخلافات العربية العربية أيضا مهمة تاريخية.. المهمات التاريخية التي تنبري لها المملكة العربية السعودية في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده محمد بن سلمان أكثر من أن يسعها حيز هذا المقال، وبهما وبعزيمة الشعب السعودي ستتحقق، لنتباهى بفخر بالمعجزة السعودية.

