: آخر تحديث

الاغتراب اللغوي واستحقاقاته غير المنظورة

15
11
16
مواضيع ذات صلة

عادةً ما تحدث ظاهرة الاغتراب اللغوي خارج مجتمع اللغة الأصلي عندما يغادرها الإنسان للدراسة أو العيش في مجتمع يتحدث لغة مختلفة. وعلى الرغم من تجاوز بعض الباحثين في التسمية في توصيف الصراع اللغوي الناشئ بين اللغة الأم واللغة الهدف إلا أن الأمر يبدو لي صراع هوياتي داخل الشخص وليس بين اللغتين.

هناك ظروف حاكمة تتعاون فيها عدد من سلطات المؤسسة المجتمعية للغة المهيمنة لتخلق سطوة يمكن توصيفها في بعض جوانب استبدادها بالتعنيف اللغوي. وهذا ما يشعر به قطاع كبير من مختلف الأعمار في بيئات العمل التي تفرض لغة غير تلك التي يعتمدها نظام العمل مما يقصي شريحة معتبرة من العاملين ويترك غصة في نفوسهم عندما يعجزون عن إتمام عملية التواصل بلغة الأقلية المهيمنة على المشهد الاتصالي في مؤسسة العمل.

تساءل ويليام جي في مقالة له عن الاغتراب اللغوي عن ماهية اللغة وكيف ترتبط بالسلطة؟ وهو يُخضع بذلك اللغة في ماهيتها وارتباطها بالسلطة إلى مقاربة الفلسفة السياسية أكثر منها إلى المنظور السوسيولوجي. وفي محاولته الإجابة على سؤاليه المزدوجين، قدّم عدداً من الطروحات، منها أن اللغة مؤسسة اجتماعية، وواحدة من أكثر المؤسسات الاجتماعية تحفظًا، فهي عنده اتفاقية خارجة عن سيطرة المتحدثين. كما أن اللغة من وجهة نظره لا تنفصل عن توزيع السلطة في المجتمع؛ فسلطات المجتمع التي تبدأ من البيت والشارع والعمل ثم السلطات العامة متباينة ولا تنتظم في مستوى واحد من قوة التأثير. ويذهب ويليام في ورقته إلى أن استخدام اللغة... يعتمد على الوضع الاجتماعي للمتحدث؛ ومن هنا تأتي سلطة اللغة من خارجها، ويتكون هذا «الخارج» من الظروف الاجتماعية التي تقع فيها الأفعال التواصلية، ومن ذلك «القبول الضمني بإتقان اللغة الرسمية» كأساس من أسس الوحدة السياسية، حين تستطيع الهيمنة السياسة تشكيل «مجتمع لغوي» واحد كضرورة من ضرورات اللحمة الوطنية. وبما أن توزيع السلطة في المجتمعات غير متكافئ، على حد تعبيره «فلا ينبغي فصل تحليل اللغة عن الوعي بالطبقات والمواقف الاجتماعية النسبية للمشاركين في أي موقف تواصلي».

ويمكن للغة، «كمؤسسة اجتماعية»، أن تمارس العنف النفسي ضد الأفراد؛ فالكلمات تؤلمنا بطرق عديدة ندركها، واللغة الهجومية تحد من سلمية وحضارية العملية الاتصالية، ولغة القمع لا تترك أدلة خلفها يمكن أن تساعد على الاقتصاص من القائمين على القمع. وإذا كانت اللغة تشكل وعيًا وسلوكًا بشريين، فإن مرونة القبضة اللغوية ييسر حدوث التنوع اللغوي الذي قد يخفف من وطأة العنف في المجتمع، لكنه يمكن أيضًا أن يفاقم ظروف العنف الاجتماعي، لأنه يفرض قيودا على بعض الفئات الاجتماعية، ويشوه تصوراتهم لصالح تمكين الأقلية الأكثر نفوذا وإشاعة فهمها وتصوراتها على حساب الأغلبية.

وبتأمل التغييرات الاجتماعية الكبرى في مجتمعنا السعودي يمكن بوضوح معاينة بعض مظاهر التعنيف اللغوي عندما تحضر اللغة الإنجليزية الوافدة لتقمع اللغة العربية واللهجات الدارجة، وتُستخدم لإعلاء شأن المتحدثين بها على حساب غيرهم مما يعمق الشعور بالغربة داخل الأسرة، وفي بيئات العمل وفضاءات التواصل الإنساني داخل حدود المملكة العربية السعودية. وعلى عكس المقاصد النبيلة من تيسير التنوع اللغوي بتقديم اللغة الإنجليزية إلى جانب العربية لتسهيل التفاعل بين السعوديين وغيرهم ممن اقتضى الانفتاح الاقتصادي والسياحي والثقافي دخولهم كمكون أساس في المؤسسة المجتمعية، فقد تولد عن هذه الفرص التي صنعت لتحقيق أهداف إيجابية، مظاهر من التعنيف والإقصاء وبخاصة داخل بيئات العمل للذين لا يجيدون اللغة الإنجليزية، وربما بات ينظر لهم بدونية في مجتمع يفترض أن لغته الرسمية هي العربية الفصحى، ولغة تعاملاته اليومية هي لهجاته العربية الدارجة.

إن تحسين ظروف التواصل اللغوي بأكثر من لغة على محاسنه، قد يشكل تحديات هوياتية معقدة مع تقدم الوقت دون أن يكون له ضوابط، لأنه قد يترك ندوبا وربما تغييرات عميقة في «القاعدة الثقافية» التي تشكلت على مدى عقود، وفق محددات سيادية تجعل من المجتمع السعودي أكثر ارتباطا بجذوره وتماسكا في أنساقه الاجتماعية. فالتحول اللغوي يفضي إلى تحول ثقافي يكون في بعض الأحيان بمثابة التحرر الثقافي بما ينطوي عليه من مخاطر على ثوابت اكتسبها المجتمع في مسيرته الطويلة وكانت صمام أمان في وجه التهديدات التي حاولت النيل منه.

لا ريب أن التغيير سنة من سنن الحياة، وأن المجتمع الذي لا يتغير يفقد مع مرور الوقت القدرة على المنافسة، بل ويضعف صموده في وجه المتغيرات من حوله، إلا أن لهندسة المجتمعات آليات ووسائل غاية في الدقة والحذر، وهي تتوقع بكل خطوة يخطوها التغيير انعكاساتها الاجتماعية والثقافة والاقتصادية والسياسة، ولذلك فإن مدخل اللغة في التغيير يرتبط به التغيير في الثقافة وطرق التفكير والحكم على الأمور المصيرية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد