: آخر تحديث

الحرب بهيئاتها الكثيرة

46
33
40
مواضيع ذات صلة

كما يحدث دائماً في الحروب، تتراجع سطوة الأرتال المتقدمة وأيدي الجنود المرفوعة بشارة النصر من أبراج الدبابات... تتراجع حماسة المحلّلين والخبراء العسكريين في الفضائيات، ويصير خطاب الزعيم المتكرر مضجراً رغم أنه سيواصل تعويض نقص الحقائق التي يرويها كل مرة بمزيد من البلاغة والاستعارات.
 
أمّا المكوّنات التي نشأت بسبب كل هذا، فتبدأ بالظهور من زوايا المشهد ومن طرق جانبية... شوارع محطمة ولقطات بعيدة لقرى يتصاعد منها الدخان، وأشخاص يحفرون في الحطام عن أحياء أو عن أمتعتهم، وآليات محترقة وجانحة على أطراف الطرق... الآليات نفسها التي كانت تعبر في بداية المشهد، وأجساد متروكة كما شكلتها حركة الموت الأخيرة، والجنود ذاتهم الذين كانوا يلوحون بشارات النصر. وسيبدأ خط طويل من الهاربين بالظهور من عمق الصورة، بشرٌ يحملون متاعهم القليل وأطفالهم، نساء في الغالب وأطفال، يواصلون تقدمهم حتى يطغى مرورهم على بقية أجزاء المشهد، بينما بلادهم تحترق وتذوي خلف أكتافهم.
 
تصل الحرب أولاً من مشهد اندلاعها، من دون ثقافتها وأسبابها، كما لو أنها نبعت من لا شيء، فقط حرب. ولكنها ستبدأ باستعادة ذاكرتها وبأنها كانت هنا دائماً، معدة ومنجزة ومؤثثة بالأسباب.
 
الغزو الروسي لأوكرانيا كان موجوداً دائماً في ثقافة الكرملين، في الوعي القومي الروسي الذي كان ينتظر فلاديمير بوتين، وهو الرئيس الذي اتكأ على إحساس الروس بالهزيمة ومرارة الخسارة بعد انهيار الإمبراطورية السوفياتية، رغم كل ما عانوه من حكم الشيوعيين، إلا أن روسيا في عهدهم كانت قوة عظمى، قوة انتصرت على النازية، وقادت شعوباً كثيرة تحت مظلتها ومنحت الروس ذلك الإحساس بالأفضلية.
 
أظن أن زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي السابق في إدارة جيمي كارتر، وهو من أصول بولندية، من قال: "إن روسيا من دون أوكرانيا هي قوة إقليمية، أما روسيا مع أوكرانيا فهي قوة عظمى". شيء من هذا القبيل. بريجنسكي وفي كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى"، والذي صدر عام 1998، أوضح الأهمية القصوى لأوكرانيا في المشروع الأوراسي لروسيا، والبوابة التي ستحاول روسيا عبورها لاستعادة نفوذها وحضورها في الخريطة الدولية. كان ذلك في ذروة سيادة القطب الأميركي الواحد. وفي العقد الأول بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المنظومة الاشتراكية وحلف وارسو، كانت النصيحة واضحة أشبه بخطة قتل، والوقت ملائم لتجريد روسيا نهائياً من أوكرانيا للمرة الأولى في تاريخها... نصيحة امتدت لتشمل حرمان روسيا المحطمة من أوزبكستان وأذربيجان أيضاً، وإلقاء روسيا خارج هذه الخريطة وحصرها في دولة شاسعة ومعزولة.
 
هنتينغتون صاحب "صدام الحضارات"، رأى أن أوكرانيا دولة متصدعة تمزقها هويات حضارية وثقافية متعارضة، وتتوزع بين الشرق الأرثوذكسي السلافي الذي يميل الى روسيا، وبين الغرب المتجه نحو أوروبا، ولكنه أورد ما قاله له ضابط روسي في مطلع تسعينات القرن الماضي إثر انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال أوكرانيا: "سيعود شرق أوكرانيا الى روسيا خلال سنوات وسيذهب غربها الى الجحيم". تبدو الآن جملة الضابط الروسي أقرب الى نبوءة.
 
بوتين ابن الثقافة القومية الروسية وممثلها يؤمن بأن الروس والأوكرانيين والبيلاروس هم شعب واحد يتحدر من السلالة الروسية القديمة، وأنهم أبناء تاريخ وكنيسة ولغة واحدة (الروسية القديمة)، وأن أوكرانيا هي صناعة روسية... أملاك منهوبة ينبغي استردادها.

هذه وسواها هي الحرب الدائرة الآن.
 
ثمة ما هو أعمق من البحث عن حياد أوكرانيا وحماية الناطقين باللغة الروسية، وأعمق من تجريدها، أي أوكرانيا، من الأسلحة التي تهدد روسيا.

تقترب الحرب في شرق أوروبا، تتقدم أضواء المركبات العسكرية، وتتقدم الغابات الباردة وأشجار البتولا والسبخات العميقة المغطاة بطبقات هشة من الجليد، يصل هاربون من الحرب، عائلات خائفة وأشخاص بعيون زائغة.
 
ستصل هذه الحرب الى هنا، ستصل بهيئات مختلفة وستترك أثرها في كل شيء، من المستوطنين الجدد الى نقص الطحين وارتفاع أسعار الخبز والغذاء والطاقة رغم عدم وفرتها، الى الإدراك العميق بأننا لسنا على جدول اهتمامات العالم الغربي الذي نحاول من دون ملل لفت نظره الى هذه المنطقة من العالم، وأن سنوات طويلة من التلويح والصراخ: "انظروا نحونا... انظروا الينا... نحن هنا" كانت مضيعة للوقت.
 
تصل إلينا عبر فولوديمير زيلينسكي المحاصر في عاصمته الذي يواصل صراخه ضد الاحتلال الروسي لبلاده، وهو يطلب من نفتالي بينيت الذي يحتل جيشه القدس الدعوة لمفاوضات مع المحتل الروسي في العاصمة الفلسطينية المحتلة.
 
ستصل الحرب على هيئة هذا الوعي ونحن ننظر في بلادنا المحطمة ومدننا المدمرة وهجرة أولادنا وحروبنا الأهلية التي لا تنتهي، وأن برامج كثيرة وجهوداً ولغة ومحاولات مكلفة بذلناها لنصعد في ذلك الجدول، لم تكن ضرورية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد