: آخر تحديث

الحرب ومتعة المشاهدة

45
39
44
مواضيع ذات صلة

الحروب تدور دورة الرحى في فلك الإنسان منذ أن خُلق على وجه هذه الأرض، إذا ما تتبعنا تاريخها ليس في كتب التاريخ فحسب، وإنما في تلك الأساطير والسّير والقصص والأشعار والروايات، وكل ما يخطه قلم أو يرويه راوٍ، فهل الإنسان نفسه قد فطر على الحرب أم فطر على سماع أخبارها؟

فإذا ما نظرنا إلى ملحمة الإلياذة والأوديسا للكاتب هوميروس والذي عاش في القرن السابع قبل الميلاد، فسنجد أنها من أغلى الكتب وأندرها. ذلك ليس أنها تحمل وقائع تاريخية محددة بحسب نظرية التأريخ، وإنما لما تحويه من خيالات متسقة مع واقع السرد متعضدة بعقيدة الانتماء وحب الأوطان. وعلى سبيل المثال أن الإله هيرميس Hemes إله المكر والدهاء والخديعة، قد لجأ إلى حيلة لإخفاء أثره حينما سرق ثيران أبوللو.

ثم أن إسطورة هيكابي Hecabe زوجة بريام ملك طروادة تقول إنها قد رأت في منامها وهي حامل بابنها باريس أنها تلد شعلة نار، فكان باريس هو من سبب الحروب التي أدت إلى دمار طروادة.

لازلت أذكر أن أمي -رحمها الله- كانت تجلسني في مقعد الراوي لأقرأ لجاراتها عصر كل يوم لسيرة أبو زيد الهلالي وسيرة عنترة بن شداد وسيرة سيف ابن ذي يزن، وكنت الجارات وهن كثر يحرصن على حضور الجلسة كل عصر وكأنه صالون ثقافي من صنع والدتي لكنه صالون لا يحتوي إلا على السرد والخيال، وهذا ما يحظى به فن الراوي في أدبنا الشعبي أيضاً من متعة التوتر الباعثة على الدهشة!

هذه الخيالات المتلاحقة في أنموذج محْكم من السرد مكوناً ذهنية بديعة من الدهشة التي تسيطر على المتلقي وتأسر لبه وتقيده بأغلال المتعة في مقعده وكأنه يرتضع عسلاً مصفى إذا ما تلازمت تلك المسرودات بالخيالات ومرصعة بوقائع قد يصدقها العقل مرة أو ينفيها مرة أخرى.

ونعتقد أن ما تركه لنا الكُتّاب والمدونون الأوائل في صفحات من الإبداع التي نحسبها كنوزاً من التاريخ المسرود، مثل بدائع الزهور في وقائع الدهور لمحمد بن أحمد بن إياس، وكذلك تاريخ الجبرتي بأجزائه وفنون عرضه ومسرداته وغير ذلك من أمهات الكتب التي توارثناها، إلا أن ظهور هذه الآلة الإعلامية قد غطت كل جوانب المسرودات التي كان يقوم بها كتابنا القدامى ممن ذكرنا أمثالهم سلفاً.

لكنها تظل هناك علامة فارقة تستدعي تساؤلات استفهام، بل وتستدعي الحذر والحيطة، وهي إلى أي مدى مصداقية ما يعرض أمام أعين البشرية ولما يقال عبر هذه الآلة. حيث تكمن الخطورة هنا في أن الذهنية العربية بشكل خاص قد تربت وتشكلت على تلقِي موثوق به نظرا لمصداقية المسؤولين عن النشر وعن الإذاعة والعرض؛ لأنه: أولا- كان مسؤولا أمام مرؤوسيه وفي دائرته عن أي كذبة تحدث وثانيا - أنه كان يعتبر المصداقية هي نوع من شرف الكلمة فللكلمة شرف مثلما قال الكاتب والشاعر والمفكر عبدالرحمن الشرقاوي رحمه الله:

الكلمة نور..

وبعض الكلمات قبور

وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري

الكلمة نور

ودليل تتبعه الأمة

هذه الذهنية قريبة العهد بالحداثة وبالإعلام العالمي والعولمي؛ هي قد تربت كما أسلفنا على التصديق والتسليم بما تراه وما تسمعه إلى حد بعيد وهنا يكمن الاختراق الفكري المدجن للعقول المستسلمة بلا نقاش أو تساؤلات!

إن ما نراه اليوم عبر القنوات العالمية والعولمية هو ما يستدعي الدهشة لتلك المضاربات والتحليلات الكاذبة والصادقة، وامتلاك مساحات شاسعة من الدهشة والخوف والترقب؛ وفي نهاية الأمر نستشعر بأننا نقبض على الماء.

لم يكن ذلك بمحض الصدفة، بل لدراسة مستقصية للذهنية العربية والعالمية ولما تترك من الدهشة الصورية المتلاحقة بالسرد والرؤي والأرض كوطن لا بديل عنه، ومن هنا يتسرب وجدانياً إلى العقول المتلقية نوع من التسليم إما مع هذا المعسكر أو مع ذاك! وكل معسكر يمد حباله في استقطاب مرير ومقيت على حساب الإنسانية جمعاء، فقد يكون هدم الدنيا كلها كأحلام هيكابي بشعلة رحمها باريس والذي أحرق طروادة. إن لذة الدهشة ومتعة التوتر هي كلتا الآليتين مفتاح للوجدان والسيطرة عليه من إعلام مؤدلج وموجه وقد يكون كاذباً، وهنا تكمن الخطورة!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد