: آخر تحديث

الثقافة الشعبية في الخليج العربي ونكهة العصر

25
31
33
مواضيع ذات صلة

قبل سنوات حاولت أن أقرأ الشعر الشعبي في الخليج العربي قراءة انطباعية، كنت في ذلك الوقت أكتب في (الثقافة الشعبية) وخصوصًا (الشعر الشعبي)، وكنت أحاول أن أمس حركة الشعر الشعبي في الخليج مسًا خفيفًا لينًا، وكان كل ما أحاول أن أقوم به قراءات انطباعية لبعض الأعمال الشعرية، ولقد تبين لي من واقع تلك القراءات أن الشعر الشعبي صار أكثر تمدنًا وحيوية وانسجامًا وقربًا من الذوق الحديث -وهذا يعود في تصوري– إلى حركة الرفاه الاجتماعي التي أصابت المجتمع.

ولذلك نستطيع أن نقول إن العصر الجديد للشعر الشعبي قد بدأ فعلًا، وإن الجيل الجديد قد كسر حالة الرتابة التي كانت أصابت الشعر الشعبي لسنوات طويلة. في عام 1985هـ غادرت إلى الولايات المتحدة الأميركية، وعند ذلك توقفت عن تلك القراءات النقدية المنتظمة، وإن كنت في بعض الأحيان أقوم ببعض القراءات المقتضبة، وبعد عودتي من أميركا شرعت في دراسات نقدية جادة وشاملة.

كان الشعر الشعبي –في ذلك الوقت– يفتقر إلى الدراسات النقدية الجادة، فقد بقي النقد الأدبي على الحالة الأولى التي بدأ بها ولم يعد ملائمًا للحالة الممتازة التي وصل إليها الشعر، إذ لم يكن هنالك حركة نقدية حقيقية على الإطلاق رغم أن الشعر بلغ رقيًا ونضجًا حقيقيًا، ولقد تبين لي –من تلك الدراسات– أن الشعر الشعبي أخذ مداه، وصار مشاركًا حقيقيًا للآداب الأخرى، ومصورًا للواقع.

تلك مرحلة مرت ولكنها أنتجت شعرًا وخلقت أدبًا، ولقد تبين لي من خلال تلك الدراسات أن الشعر الشعبي في الخليج بلغ رقيًا لا حد له، فقد خطت الحياة الأدبية هناك خطوات واسعة، وسار الشعر على إيقاع تلك الخطوات، وأصبح الشعر معبرًا عن روح حياة الخليج. (فالشعر ليس وقفًا على جيل دون جيل ولا شاعر دون شاعر)، فقد كان جيل الثمانينات منفتحًا على الشعر يمتلك المقدرة على الإمتاع والإبداع. وإن كان النقد الأدبي لم يبلغ رقيه الفني بل ظل على الحالة التي بدأ منها مجادلات ومساجلات ومهاوشات ومناوشات، ولم تستطع الصحافة الأدبية استثمار هذا الفن استثمارًا مربحًا للأدب، فقد أصبح فيه عدد غير المبدعين -أو لنقل المدعين- أكثر من عدد المبدعين، وهذا يحسب بالضرورة على النقد والبيئة الثقافية، هذا هو الجو العام الذي ساد الحركة النقدية في الثمانينات.

في عام 2001م نشرت كتاب "مدن الشعر"، وقد أثار الكتاب ضجة في السوق الشعري، ويبدو أنه لامس وترًا حساسًا عند بعض الشعراء وأوساط الشعر الشعبي. كان الكتاب مجرد محاولة لفهم واقع الشعر الشعبي، ولم أسلك فيه مسلك الأكاديميين وإنما قدمت الشعر الشعبي بطريقة تعين على فهم قضاياه وظواهره في وحدة موضوعية، ذلك أن مخاض الإبداع الشعري في تلك السنوات قد بلغ ذروته، وكانت الظروف مرحبة بالنتاج الشعري، ولذلك نجم شعر وولدت ثقافة. واليوم الحركة الشعرية الشعبية تواجه عجزًا مستمرًا على الانطلاق رغم عامل الوجدان الثقافي والبيئة الشعرية والأساليب الجديدة، والمنطق المباشر يقول إن هذا الوضع لا بد أن يكون له من علة، وما هذه العلة؟ إن الشعر الشعبي أصبح معزولًا عن السياق الثقافي أو بالأحرى البيئة الثقافية التي ولد فيها وعن محيطه الحيوي، ولذلك انفصلت علاقة الشعر الشعبي بالمجتمع الثقافي. هذا الانفصال الحاد بين الشعر الشعبي والواقع الثقافي جاء على حد وصف مناوئيه بوصفه شعرًا يفتقر الى الوجه الحضاري أو أنه يقع في مكان ما خارج الواقع، هذا الفهم للشعر الشعبي هو المسؤول عن اللبس الحاصل في علاقة الشعر بالسياق الثقافي العام.

لقد اضطرب مفهوم الشعر الشعبي عند بعض المثقفين حتى غدت صورة الشعر الشعبي في الأذهان مجرد استنساخ لتقاليد قديمة باعتباره شعرًا يفتقر إلى نكهة العصر، وهذا خطأ منهجي لا يستند إلى أساس موضوعي، المحزن في مسلك الخطاب الثقافي أنه يتنزل على العامة بالهالة والفوقية التي صنعها حول نفسه. يترتب على ما سبق سؤال مهم: أليس من حق الشاعر أن يتحدث عن وجدانه الخاص، ويختار أداته الخاصة التي تعبر عن عالمه الخاص، فلكل فنان سواء أكان شاعرًا أو غير شاعر أداته الخاصة التي يعبر بها عن عالمه المتفرد؟ (ونحن هنا لا نتحدث عن الحق الأصلي الذي يكفل للشاعر أن يعبر عن نفسه ابتداء، ولكننا نتحدث عن العامل الإبداعي الذي صار من حق النقاد أن يقيموه وأن يصدروا عليه أحكامهم). فالنقد المستنير يعين على الإبداع الفني (فالناقد يتفاعل أولاً مع بيئته الثقافية، وثانيًا مع الإبداع الفني الذي تفرزه هذه البيئة، ويأتي موقفه النقدي نابعاً من فهمه للسياق الثقافي وفهمه للفن وفهمه لدوره). فالموقف النقدي أو الثقافي يوجب على الناقد أو المثقف أن يتفاعل مع بيئته الثقافية ومع الإبداع الفني الذي تفرزه هذه البيئة أيًا كان شكل هذا الفن سواء أكان شعراً شعبيًا أو حديثًا أو كلاسيكيًا.

على الشعر الشعبي أن يقترب خطوة أخرى من تقاليد العصر، ويتناول موضوعات العصر، ويسلك وسائل تعبيرية جديدة، ويفصح عن واقعه المتمدن، ويجتاز ضيق الأفق.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد