: آخر تحديث

"حكايتي بعد التسعين"

53
45
43
مواضيع ذات صلة

أكثر فترة يشتاق إليها وقد جاوز الثالثة والتسعين هي التدريس، هو أحب الأعمال إلى قلبه من بين كل المجالات الكثيرة التي عمل فيها، فبعد أن دَرَسَ في عنيزة قبل ثمانين عاماً واصل تعليمه في الرياض والقاهرة إلى أن أصبح استاذاً في جامعة الملك سعود، ثم مستشاراً في هيئة الخبراء، وختم حياته العملية الحافلة بالعطاء عضواً في مجلس الشورى لثلاث دورات متتالية، ومع هذا يرى أن التدريس هو الأحب، أحب هذه المهنة السامية، فتعامل مع الطلبة بلطف ومحبة وعطف وتوجيه، وعرف قيمة التدريس أكثر بعد أن تقاعد حين يلتقي برجال ناجحين درّسهم، يستوقفونه للسلام عليه وشكره على جهوده.

صاحب السيرة "حكايتي بعد التسعين" هو الدكتور عبدالعزيز العلي النعيم الرجل المتواضع وصاحب السجل المشرف والوفاء بأجمل صوره، سواء مع أسرته أو مع زملائه وما قدمه لوطنه. تحدث عن زوجته بإسهاب وأثنى عليها كثيراً لحبها له وحبه لها، حتى السيارة اشتركت معه في حب زوجته فحملت اسمها بحروفه الثلاثة (ح ص ة) كعربون صداقة ووفاء. لم يرض أن يغضبها في الزواج من ثانية وكونا معاً أسرة ناجحة قوامها ثلاثة أطباء، ومهندس توفي وهو يحضّر للدراسات العليا، وبنت متميزة أحبها كثيراً وأفرد لها ثلاث صفحات من سيرته. سبق ولادة هؤلاء ثلاثة أطفال توفوا جميعاً بسبب الأمراض وغياب المستشفيات في ذلك الوقت.

تحدث عن عنيزة كثيراً وبدايات التعليم فيها على يد المعلم الفذ صالح الصالح الذي افتتح مدرسة أهلية تدرس العلوم الحديثة رغم معارضة بعض الأهالي خوفاً من إفساد عقائد أبنائهم، إلا أن إصراره وإيمانه بأهمية التعليم ومساندة أمير عنيزة في ذلك الوقت عبدالله خالد السليم جعل المدرسة تبقى وتزدهر بجهود هذا المعلم المتميز والمحب للتعليم والمسرح، فكانت من أهم أسباب تميز أبناء عنيزة وتبؤهم مناصب كثيرة في الدولة.

استثمر وقته أثناء الدراسة في القاهرة فتعلم اللغة الإنجليزية، وواضب على القراءة، وقال عنها: "القراءة ساحرة ممتعة، تنقلك إلى كل مناطق العالم دون تكاليف أو عناء سفر، القراءة ترتقي بمستوى التفكير، وتعطيك ما لا تعطيه لك المدارس والجامعات، أما كتب السير الذاتية فهي التي تقدم لك عصارة تجارب حقيقية عاشها أصحابها وقدموها لنا في كتب لا تتعدى قيمة الواحد منها وجبة غداء".

أجزم أن القراءة هي من أسهم في توسيع مدارك صاحبنا وتسامحه وقبوله الآخر دون النظر إلى تلك الزوايا المظلمة التي ينفذ منها الفكر الضيق المحدود. تحدث بتجرد وتقدير عن الفيلسوف والمفكر القصيمي الذي أثارت أفكاره الكثير من الزوابع بسبب تقدمها ونقدها للكثير من الأفكار الخاطئة، لكن الناس عندما تجهل شيئاً تنكره، القصيمي كان يدعو إلى إعمال العقل وترك الخرافات، والتعامل مع الحياة بتطورها وما وصلت إليه من حقائق علمية. أغضب القصيمي البعض بكتابه "هذه هي الأغلال" ذكر فيه بعض العادات والأفكار التي تقيد الإنسان وتمنعه من التفكير والتدبر والتحليل والاكتشاف. وأضاف: "كنت ألتقي وزملائي بالقصيمي في القاهرة فيأخذنا إلى أبعاد فكرية واسعة، لم يكن راضياً عن الأوضاع العربية في ذلك الوقت" كما كان يدعو إلى فتح المدارس للبنات وهو ما ألّب عليه المعارضين لهذه الفكرة.

تحدث بإكبار عن أخيه عبدالله (أبو علي) وقربه منه منذ الصغر وطيبته وكرمه. وأبكاني حين تحدث عن وفاة زوجته وابنه يوسف. ترك غياب زوجته فراغاً ووحدة رغم قرب أبنائه وأحفاده له، فارتبط بزوجه ثانية من أسرة كريمة هي "لولوة" التي أثنى عليها كثيراً، فقد فكانت نعم الوفي له ولابنائه ولذكرى زوجته الأولى.

تحدث عن الشورى وزملائه بكل تقدير واحترام، وختم هذا السفر الجميل بنصائح للشباب تنم عن تجربة وعرفان، فقال: "أحمد الله أني عشت في هذا الوطن وكنت ممن حالفهم الحظ وأكرمهم الله بأن عاشوا في عهد دولتنا الزاهر، أقول للشباب ما أقوله دائماً لأبنائي وأحفادي: "دافعوا عن بلدكم قدر ما تستطيعون وأخلصوا العمل، وردوا على كل من يحاول النيل من حكومتنا"، كما أقول للشباب ومن تجربة: "حافظوا على الصحة لتعيشوا حياة ملؤها السعادة والعطاء والقوة، الصحة تتيح لكم تحقيق طموحاتكم في الحياة، لا تدخنوا السجائر، والحمد لله، انني وأولادي لم ندخن في حياتنا، بودي أن كل من يقرأ هذه الكلمات ألا يجرب التدخين".

ذكريات ومواقف جميلة من الصعوبة أن يشملها مقال، لكنها إضاءات لكتاب جميل يضاف للمكتبة العربية، ولعل كل صاحب تجربة يضعها في كتاب قبل أن تضيع في زوايا النسيان.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد