: آخر تحديث

مثل يد وحيدة تلوّح

43
44
39
مواضيع ذات صلة

هنا في رام الله، الحي القديم أو ما يسمى "رام الله التحتا"، يتجمع بحكم العادة، أو باتفاق مضمر متقاعدون متذمرون في الغالب، عالم صغير من عدم الرضا، حيث يخضعون كل شيء تقريباً، السياسة والاقتصاد والأخلاق ومفاهيم الوطنية وأدواتها، للمقارنة بأيامهم، الأيام التي يواصلون، ضمن نفس الاتفاق وبشيء من التواطؤ، تنقيتها من الأخطاء وسوء الاستخدام حيث تبدو تلك الأحاديث المعادة أقرب الى ورشة ترميم جماعية للماضي الذي كان زمنهم والذي عليهم حمايته مثل سيارة قديمة لامعة، يحدث هذا في ساعات الصباح المتأخرة على وجه الخصوص ويذوب في غايات النهار مع اقتراب الظهيرة، ليخلو المكان لموجة جديدة من الرواد أصغر عمراً، مجاميع تبدأ بالوصول مساء من أنحاء المدينة، عربات الشطائر والقهوة والذرة المشوية والفول ستظهر مثل زخرفة ليلية للمكان... سيتواصل هذا الحضور الجماعي حتى ساعات الصباح الأولى حيث تحتل الأرصفة وتتمدد المقاعد والموائد البلاستيكية نحو عتبات المحلات ومداخل البيوت والزواريب التي تصب في المكان. 

أحاديث المساء تذهب نحو مناطق أخرى أكثر اتصالاً بالحياة والوقت حيث يكتسي التذمر ملامح خفيفة من الاحتجاج، حتى أن أولئك المتبقين من رواد الصباح أو الذين عادوا بعد قيلولة طويلة سيدخلون في انشغالات مختلفة يأتي بها الليل والأضواء وحيوية الشارع، بينما يتجمع في الداخل أمام شاشة عريضة تحتل الجدار، علقت لمتابعة مباريات كرة القدم، وهي تواصل منذ ظهرت على الحائط قبل سنوات بث البطولات بأنواعها الأوروبية واللاتينية والعربية بصبر ودأب من دون توقف، موقع الشاشة ومساحتها وشغف الجالسين منحتها سلطة خاصة، بحيث تبدو على نحو ما متحكمة في المكان.

في الساعات المتأخرة من صباح أمس خرجت الشاشة عن روتينها الذي حافظت عليه لسنوات، لو استثنينا المواجهة في الشيخ جراح والقدس وغزة في الصيف الماضي، عندما نهض رجل سبعيني يتمتع بأناقة متقاعد نموذجي وتناول جهاز التحكم الذي يحتفظ به صاحب المقهى كجزء من سلطته، ضغط على الجهاز وبدل القناة تاركاً اللاعبين ومتابعيهم معلقين في فضاء غير مرئي، وظهرت على الجدار مشاهد جديدة، شوارع بيروت الطيونة، بدارو، وعين الرمانة والشياح، مدنيون يركضون من دون وجهة محددة، ومسلحون يتراكضون بين صليات الرصاص، بينما مذيعة تلهث تحت خوذة زرقاء وهي تصف ما لا تراه الكاميرا.

في الزاوية توقف لاعبو "الشدة" عن الصياح، وتوقف لاعبو النرد عن رمي الأحجار، وتوقف المتقاعدون عن التذمر، بقي لهاث المراسلة وقرقرة الماء في النارجيلات، بينما الرجل الذي غير القناة بدأ بتقديم شرح وافٍ مستعيناً بالصور المعروضة، لتركيبة الأحياء والمحاور وأنواع الأسلحة، بدا كما لو أنه عثر على ما يؤكد حياته، وبدا أنه يحظى بثقة جمهوره الصغير الذي تخلى الآن عن معلومات المراسلة، بينما الرجل السبعيني يلقي جملته المعترضة المتكررة في قماشة الشرح، لقد كنت هناك، في منطقة ما من الوصف كان غاضباً بطريقته من هؤلاء الذين يطلقون النار على ذكرياته.

ما زالت بيروت تترك أثرها الخاص هنا، وما زال الحديث عنها وتذكرها يسعى في حنين هؤلاء الناس، بمن فيهم أولئك الذين لم يذهبوا اليها لأسباب كثيرة منها الاحتلال وريبة وزارة الداخلية في لبنان وضيق ذات اليد.

تتبدل المدينة وتدخل في أدوارها وتتجدد مطاردتها ودفعها نحو الحافة، ولكن الطريق اليها يبقى قادراً على بث ذلك الإحساس الذي تتركه يد بعيدة تلوح، من وصول أبناء الإقطاع والارستقراط الفلسطيني الى الجامعة الأميركية قبل النكبة كجزء من امتيازاتهم، الى تدفق أبناء الطبقات الفقيرة واللاجئين الى جامعة بيروت العربية التي فتحت أبواب الانتساب في ستينات القرن الماضي ومنحتهم فرصة التعليم في مدينة تشبه الحلم.

على الأشياء التي تتهيأ للحدوث هنا وفي الإقليم أن تترك شارتها في بيروت، انهيار المنطقة العربية بدأ بحرب أهلية هناك، تقسيم المنطقة وتفككها الإثني والطائفي بدأ في هذه المدينة، تفكيك الحواضر المركزية في منطقة الهلال الخصيب وتحريك المركز بدأ في بيروت وبلغ ذروته في انفجار الميناء الذي تجاوز أن يكون مجرد إشارة...، الصوت الذي يسعى خلف حرائقها يصل هنا:

ها هي مدينتكم التي كانت تضيء لكم طرق الحلم مطفأة ومعزولة ومحكومة بالقناصين، ومرافقي الأمراء الذين يتدفقون من معازلهم على الدروب المؤدية لها من جديد، يسبقهم طرق المعدن وهم يعيدون صناعة طوائفهم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد