: آخر تحديث

التعليم الافتراضي

46
44
43
مواضيع ذات صلة

نشأ التعليم مع نشأة البشرية أي منذ بداية وجودها، وكان شفهياً تلقينياً في فجر الإنسانية الأول، وذلك قبل ميلاد الكتابة. ثم ظل يتطور ويتقدم إلى أن وصل شكله النظامي العصري الحالي، والذي تمتد جذوره المباشرة إلى القرن الرابع عشر الميلادي، قبل أن يصل أخيراً إلى مرحلة التعليم التقني الإلكتروني، أي نسميه في عالم اليوم التعليم الافتراضي أو التعليم عن بعد، والذي فرضته بصفة خاصة جائحةُ كورونا التي عطلت عجلة النشاط في كثير من مجالات الحياة وأصبح التعامل عن بعد آلية معمولا بها في كثير من الأنشطة البشرية خلال العامين الماضيين.

لكن الدراسة عن بعد لها مضارها وسلبياتها العديدة، كما اتضح جلياً خلال زمن كورونا التي اجتاحت العالم على حين غرة وغزته وعطلت الموارد ودمرت الاقتصاد وأربكت التعليم وأوقفت الكثير من منافع الحياة وغيّرت العديد من أنماط السلوك البشري.

لقد ثبت أن التعليم عن بعد يساعد على الخمول والكسل، وربما يتسبب في انتكاسة لمستويات التعليم في العالم ككل، لأن الطالب في ظل هذا النمط من التعليم يفقد الحيوية والنشاط مما يؤثر على طاقته الاستيعابية وعلى نشاطه الذهني، وحتى على سلوكه الحركي الذي يصيبه التغير هو أيضاً بسبب الجلوس الطويل في المنزل والبقاء مع الأسرة لساعات متواصلة يتسرب خلالها إلى نفس الطالب شعور بالملل والانزعاج، مما يجعله في بعض الحالات يسهر ليلا وينام نهاراً بحجة الحذر والخوف من عدوى فيروس كورونا.

لذلك فإن كثيراً من الطلاب الذين اقتصروا في تعليمهم خلال العامين الماضيين على نظام التعلم عن بعد، يحتاجون الآن إلى إعادة تأهيل من جديد بعد الخمول الذي أصابهم، وإلى الاختلاط والتحدث وممارسة النشاط التربوي والرياضي مع أقرانهم من التلاميذ الذين تلقوا تعليمهم داخل الصف والمدرسة بشكل طبيعي ودون قيود كبيرة، بعيداً عن جو الأسرة والرقابة الصارمة.. وذلك لجعل هؤلاء الطلاب يُقبِلون على المشاركة والنقاش، ومن أجل خلق روح التنافس والمرح في حياتهم من جديد، ولتمكينهم من التعرف على وجوه وثقافات وعادات وتقاليد جديدة عندما يختلطون بأقرانهم الآخرين.

ومما يعزز الذكاء الاجتماعي لدى التلاميذ التفاعل مع زملائهم وتوسيع دائرة التواصل الاجتماعي الحقيقي والمباشر مع أشخاص من خارج البيت والأسرة، وليس فقط التواصل الاجتماعي الافتراضي الذي يبلّد المشاعر ويميت الأحاسيس ويعلّب التفكير وربما يتسبب في ما يشبه التوحد عند التلاميذ في سن معينة.

إن التفاعل والتناغم المباشر مع زملاء الصف الدراسي، كان وما يزال جزءاً مهماً من تعليم النشء وتربيتهم (والتربية تسبق التعليم)، لذا كان مدرسو مختلف المواد الدراسية يحرصون على تقديمها بطرق تربوية، فكان المعلم يدّرس تلاميذه حصص النحو والإعراب بوسائل ترسخ في ذهن الطالب ووجدانه قيم الأخلاق والانضباط والسلوك الحميد.

فمثلا كان يختار أمثلةً ونماذجَ تربوية لشرح التغيير الذي يطرأ على الجملة الاسمية بعد دخول الفعل الناقص «كان وأخواتها»: محمد تلميذ يحب وطنه، محمد ولد بار بوالديه، محمد شاب صادق وأمين وأنيق.. كان محمد تلميذاً محباً لوطنه، كان محمد ولداً باراً بوالديه، كان محمد شاباً صادقاً وأميناً وأنيقاً.

وهكذا كانت فصول التعليم في المدارس العربية سابقاً، قبل أن يتحول الطالب إلى شبه آلة معلبة أو ماكينة تدوير معلومات ومخزن معرفي فارغ من المحتوى الإنساني والأخلاقي.. فهل يساهم التعليم عن بعد في جعل العملية التعليمية بلا معنى ولا هدفا ولا رسالة؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد