نجد في أدبيات التعليم السعودية أن مدينة عنيزة القصيمية شذت عن بقية مناطق نجد لجهة الترحيب بفكرة تعليم البنات حينما أمر الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز بإنشاء مدارس لهن بالمدينة، طبقاً لما رواه حمد محمد البسام في صحيفة الجزيرة (22/4/2007). وربما لهذا السبب تفتخر عنيزة اليوم بأنها أنجبت للبلاد ثلة من السيدات اللواتي لم يتخرجن فقط في مدارسها النظامية المبكرة، وإنما واصلن تعليمهن العالي في الداخل والخارج، ثم تبوأن أعلى المناصب والمراكز، بدليل أن اثنتين من بناتها دخلتا تاريخ البلاد بوصفهما أول سعوديتين تحصلان على الدكتوراه من جامعات الغرب، وهما: ثريا محمد التركي، وابتسام عبدالرحمن البسام.
سبق أن تناولنا سيرة الدكتورة التركي في مقال موسع سابق؛ لذا سنخصص هذه المادة للحديث عن الدكتورة البسام. والحقيقة أن أسرة البسام القصيمية التميمية المعروفة على نطاق واسع أنجبت أعلاماً كثراً في مختلف المجالات والحقول. هذا ناهيك عن حقيقة أخرى هي أنها أنجبت أيضاً ثلة من النساء الرائدات والمبدعات ممن برزن على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي. وابتسام البسام ليست سوى واحدة فقط من هؤلاء؛ حيث إن من يتصفح تاريخ آل البسام وينقب فيه سيجد أسماء كثيرة بارزة رجالاً ونساءً، بل سيجد فيها نحو مئة من الرجال والنساء الحاصلين على درجة الدكتوراه.
ولدت الدكتورة «ابتسام عبدالرحمن محمد سليمان عبدالله إبراهيم عبدالرحمن الحمد البسام» في أواخر الأربعينيات الميلادية في عنيزة، مسقط رأس والدها وأجدادها، والتي قالت عنها في حوار في برنامج «وينك»، الذي يبث على قناة روتانا خليجية: «منحتني عنيزة الكثير.. منحتني الجذور التي لا بد منها لأي إنسان حتى ينطلق في فضاءات الثقافة المختلفة من حوله»، وبها تلقت تعليمها الأولي قبل أن يقودها إصرارها وطموحها ورغبتها في التغيير وعشقها للارتقاء بذاتها إلى الاغتراب عن وطنها والسفر إلى القاهرة من أجل التحصيل الجامعي.
ولعل ما ساعدها في ذلك ليس فقط ما هو معروف عن آل البسام من قديم الزمان لجهة قبول التحديات وخوض المغامرات، وإنما أيضاً انفتاح والديها وإيمانهما القوي بالعلم والتعليم العصري، فوالدها هو الدبلوماسي البارز الأسبق عبدالرحمن محمد السليمان البسام، الذي أجاد التحدث بثماني لغات، أما والدتها فهي سيدة جليلة تنتمي إلى أسرة «أبو الفتوح» المصرية الكريمة المعروفة، أما العامل المساعد الآخر الذي رسخ في داخلها فكرة مواصلة تعليمها الجامعي دون تردد، فهو أنها عاشت متنقلة مع والدها السفير في محطاته الدبلوماسية العديدة، فتشربت ثقافات تلك البلدان، ورأت بأم عينها كيف يتنافس مواطنوها على الارتقاء بذواتهم من خلال التحصيل.
وهكذا شدت الرحال إلى مصر للالتحاق بجامعة عين شمس، التي منحتها ليسانس آداب اللغة الإنجليزية، لكن تلك الدرجة العلمية لم تكن لتشبع طموحاتها، فسافرت إلى الولايات المتحدة مبتعثة من قبل وزارة المعارف السعودية لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه اللتين حصلت عليهما في الأدب الإنجليزي من جامعة ميتشيغان في سن صغيرة. وقد روت كيف أن وصولها إلى الولايات المتحدة صادف إجازة عيد الميلاد، التي تقفل فيها المحال وينصرف فيها الغربيون إلى الاحتفال في أجواء عائلية دافئة، بينما كانت هي تقبع وحيدة في سكن الجامعة الداخلي دون أهل أو أصدقاء أو معارف.
بعد نيلها الدكتوراه أصرت أن تعود إلى وطنها لخدمته، على الرغم مما كانت تعرفه عن صعوبات توظيف النساء في بلادها آنذاك. وهكذا وصلت إلى جدة وتولت مسؤوليات إدارة كلية التربية للبنات، ومن جدة انتقلت إلى الرياض لتصبح في أواخر السبعينيات أول عميدة سعودية لكلية التربية للبنات في المملكة. وعن تجربتها في هذه الوظيفة التي خلفت فيها السيدة السودانية الدكتورة سعاد الفاتح تحدثت في حوارها التلفزيوني المشار إليه آنفاً، فقالت ما مفاده أنها كانت المرة الأولى التي تتولى فيها سعودية عمادة كلية، ما جعل تعامل زملائها الرجال معها حذراً وصعباً، وبه شيء من الغيرة الممزوجة بالخوف على مراكزهم، بدليل أن أحدهم قال ممتعضاً: «نشبت في حلقنا هالسعودية»، بمعنى أنه من الصعب التخلص منها، بينما لو كانت غير سعودية لسهل التخلص منها بإنهاء عقد عملها، كما قالت إنها تمتعت بعلاقات حميمة مع طالباتها، خصوصاً وأنها كانت في أعمارهن.
وأتت البسام في الحوار نفسه على ذكر واقعة تلقيها خطاب إنذار وتحذير من الرئاسة العامة للبنات بسبب إقدامها على استخدام الموسيقى وعزف السلام الملكي أثناء تخريج أول دفعة من الطالبات الحاصلات على درجة الماجستير في الآداب.
ويبدو أنها استاءت من تلك الطريقة في التعامل معها، فطلبت من الرئاسة العامة لتعليم البنات أن تمنحها تفرغاً علمياً كي تقوم بأبحاث تسمح لها بالترقي الأكاديمي، وهو ما تمّ رفضه بحجة عدم وجود سابقة لتفريغ النساء السعوديات. وهنا قررت أن تتجاوز مرجعيتها الوظيفية وتكتب خطاباً مباشراً لخادم الحرمين الشريفين الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز، الذي استجاب لطلبها فوراً وابتعثها مجدداً إلى الولايات المتحدة لمدة عام.
وأثناء وجودها هناك سمعت عن قرب افتتاح أكاديمية تعليمية سعودية في لندن بدلاً من مدرسة سعودية خاصة كان قد تمّ إغلاقها، فتطوعت مقدمة خبرتها التربوية في عملية التأسيس. وهكذا سافرت إلى بريطانيا وحضرت كل الاجتماعات التمهيدية قبل أن يتم اختيارها لرئاسة الأكاديمية بموافقة السفير السعودي الأسبق في بريطانيا ناصر المنقور. تقول البسام إن الكثيرين من زملائها ومعارفها استغربوا أنها قبلت رئاسة مدرسة من بعد أن كانت عميدة لكلية جامعية (تتذكر البسام كيف أن لورداً بريطانياً دخل عليها مكتبها بالأكاديمية ذات مرة قائلاً: «هذه أول مرة في حياتي أشاهد امرأة سعودية تدير مؤسسة بها رجال بريطانيون»).
في عام 1992 انتهت مهام السفير المنقور في بريطانيا وخلفه في منصبه الدكتور غازي القصيبي، فبعث المنقور بخطاب شكر للبسام للمرة الأولى على تعاونها في تأسيس وإدارة أكاديمية الملك فهد بلندن. تقول البسام أنها تأثرت بالخطاب إلى درجة أنها بكت. وحول ما أشيع عن تأزم العلاقة بينها وبين السفير القصيبي، نفت ذلك جملة وتفصيلا، مؤكدة أنها اعتبرت القصيبي أخا أكبر لها وتعاونت معه بل حرصت أن يكون له مكتب في الأكاديمية باعتباره رئيس مجلس أمنائها، ومضيفة أن ما سمي بالخلافات لم يكن سوى اختلافات في وجهات النظر حول بعض الأمور التنظيمية للأكاديمية.
كما نفت أن يكون القصيبي هو من رشحها للعمل لدى منظمة اليونسكو بباريس تخلصا منها، موضحة أنها شعرت، بعد 10 سنوات من العمل في الأكاديمية، أنها قدمت كل ما لديها ومن الأفضل الانتقال إلى موقع آخر مختلف لخدمة وطنها، فأفصحت لوزير التربية والتعليم السعودي الأسبق محمد أحمد الرشيد حينما قابلته بلندن في التسعينات عن رغبتها في العمل لدى منظمة اليونسكو. رحب الرشيد بطلبها واخبرها أن كل الشروط تنطبق عليها، خصوصا وأنها تتحدث العربية والإنجليزية والفرنسية، ويبقى فقط الحصول على موافقة المقام السامي الذي لم يمانع.
وهكذا انتقلت البسام عام 1995 إلى باريس لتصبح أول موظفة خليجية بمنظمة اليونسكو، ولتتدرج في مناصبها خلال السنوات الـ 11 التي قضتها في دهاليزها حتى وصلت إلى منصب مستشارة لنائب المدير العام، ومسؤولة عن اليوم العالمي للمعلم. وبصفتها تلك زارت مختلف دول العالم ضمن وفود المنظمة الرسمية، وأضافت إلى علمها وخبرتها الشيء الكثير، لكنها في الوقت نفسه واجهت منافسة ضارية من البعض المتطلع للحلول مكانها، خصوصاً وأن تواجدها في اليونسكو كإمرأة سعودية مسلمة كان مبعث استغراب عند الفرنسيين والفرانكفونيين.
تقول البسام أنها تعلمت من دراستها ثم عملها في الغرب كيف أن الشعوب هناك تتنافس فيما بينها لخدمة بلدانها دون منة أو انتظار مكافأة، وأنها تعلمت من عملها في اليونسكو التواضع والتعامل مع الجميع بمساواة.
وأخيراً فإن مما يعرف عنها أنها فضلت العمل على الزواج وإنجاب الأطفال، خصوصا وأن تنقلها الدائم من مكان إلى آخر لم يكن يسمح لها بتأسيس أسرة ورعايتها كما يجب، لكنها تعتز بأن كل من درستهم هم بمثابة أبناء وبنات لها، وهم بدورهم يعتبرونها أما لهم. وقد روت حادثة بهذا الخصوص مفادها أنها كانت مسافرة جوا من بريطانيا إلى الولايات المتحدة ذات مرة فإذا بقائد الطائرة من خريجي أكاديمية الملك فهد بلندن، وبعد أن تعرف عليها عرفها على الركاب قائلا: «هذه أمي الثانية».