في كلِّ حركةٍ احتجاجية أو مظاهراتٍ تجتاحُ إيرانَ يطلقُ المسؤولون الإيرانيون، بما فيهم المرشدُ الأعلى الإيراني (علي خامنئي) تصريحاتٍ مضمونها (إن الغربَ هو الذي يقفُ خلفَ هذه المظاهراتِ ويحرِّضُ عليها لإسقاطِ النظام).. لكن هؤلاء المسؤولين الإيرانيين لا يتوقفون أمامَ الأسبابِ الحقيقيَّةِ التي تجعلُ من الشعبِ الإيراني، وخصوصًا الشبابَ منهم، مستعدًا لأن يقدِّمَ حياته ثمنًا لخروجه في هذه المظاهراتِ الاحتجاجيَّةِ ويرفعَ صوته عاليًا في الشوارعِ والمدن والأقاليم المختلفة ضد النظام السياسي الثيوقراطي (حكم رجال الدين) في إيران.
هذا النظامُ الإيرانيُّ المستبدُ لا يسألُ نفسَه: لماذا هذه المظاهرات الشعبية لم تتوقف منذ تأسيس نظام الملالي عام 1979 حتى الآن؟ ولا يمر عامٌ من دون أن تشهدَ إيرانُ مظاهراتٍ لأسبابٍ مختلفة.. اقتصاديَّة أو معيشيَّة أو اجتماعيَّة.. والمشكلةُ أن المسؤولين الإيرانيين لا يتوقفون أمامَ الأسباب التي تؤدي إلى هذه الاحتجاجات ويكتفون بالتعاملِ مع نتائجها بالقمعِ الوحشيِّ والتنكيلِ بالمتظاهرين في الشوارع.
وفي حالةِ الحركةِ الاجتماعيَّةِ الحالية التي بدأت بمقتل الشابة (مهسا أميني) على يد شرطة (الأخلاق) واستمرت أسابيع واتسعت دائرتُها لتشملَ محافظاتٍ إيرانيَّةً كثيرة، وكذلك دخول حركات قومية متمردة على النظام مثل بلوشستان وكردستان وعرب الأهواز، صارت تقلقُ رئيسَ النظام، والتي صار يحاولُ تصديرَ أزمته بتوجيه ضربات عسكريَّة من قبل الحرس الثوري الإيراني إلى فصائل كردية إيرانية معارضة متمركزة في كردستان العراق.. أي محاولة النظام الإيراني تصوير الاحتجاجات الشعبيَّة الواسعة داخل المدن الإيرانية المتعددة القوميات على أنها مدبَّرةٌ من قبل الأكراد الإيرانيين في كردستان العراق!!
أما في الداخل الإيراني فقد اعتمد النظامُ على آلةِ القمعِ الوحشيَّةِ بحق المحتجين، ومع ذلك لم يفلح في إيقاف حركة الاحتجاجات الشعبية الواسعة، لذا لجأ النظامُ إلى أداةٍ جديدة لبث الرعب في قلوب المواطنين الإيرانيين، وهي أداةُ (عقوبة الإعدام) لكل من يشارك في تلك الاحتجاجات، وبالأمس حذَّر نشطاء من أن إيران تخططُ لاستخدام عقوبة الإعدام كأداةٍ لقمع الحركة الاحتجاجية عبر إشاعة مناخ من الخوف.. وذكرت منظمةُ العفو الدولية أنه بناء على تقاريرَ رسمية تجري محاكمةُ 21 شخصًا على الأقل بتهمٍ مرتبطةٍ بجرائم قد تفضي إلى إعدامهم، وتفيد المنظمةُ بأن إيران أعدمت 314 شخصًا على الأقل في عام 2021، بينما تشير منظمةُ حقوق الإنسان في إيران ومقرها النرويج إلى أن عدد الإعدامات هذه السنة بات أعلى بكثيرٍ منذ الآن، إذ بلغ 482 شخصًا.
وأفادت منظمةُ العفو الدولية بأن استخدامَ السلطات عقوبة الإعدام (تصميم لترهيب المشاركين في الانتفاضة الشعبية، وردع آخرين من الانضمام إلى الحراك).. وأكدت مصادرُ لوكالة الأنباء أن القضاءَ الإيراني ثبَّت مؤخراً حكمَ الإعدام على 6 أشخاص، إلا أن السلطات امتنعت عن نشر أسماء المدانين الستة الذين حُكم عليهم بالإعدام، فيما يُعتقد أنها محاولة لتجنب استخدام المحتجين أسماءهم خلال التظاهرات وانتشارها على وسائل التواصل الاجتماعي، وأدينوا جميعا إما بتهمة (محاربة الله)!! أو(الإفساد في الأرض)!! وهي جرائمُ تحملُ عادة العقوبةَ القصوى في إيران، والتي طالما عبَّر عنها الناشطون الحقوقيون عن قلقهم من استخدامها ضد معارضي النظام.
والآن لنجب على السؤال الذي يرفضُ نظام الملالي الحاكم في إيران الإجابة عنه.. وهو لماذا تشتعل الاحتجاجاتُ الشعبيَّةُ كل عام تقريبا في إيران منذ عام 1979 حتى الآن؟ يحدث ذلك بسبب طموحات إيران التوسعية خارج حدودها.. ذلك لأن النص الدستوري الإيراني بشرعية تصدير الثورة الإيرانية إلى الخارج تحت مُسمى (نصرة المظلومين في العالم) جعل الحكوماتِ الإيرانية المتعاقبة تهدرُ مليارات الدولارات سنويًّا على مليشيات مسلحة موالية لإيران في الخارج، وتمدها بالسلاح والعتاد العسكري والصواريخ والطائرات المسيّرة المفخخة.. مليشيات تقدر بالملايين من المرتزقة في سوريا والعراق ولبنان واليمن وأفغانستان وباكستان وكشمير الهندية، بالإضافة إلى إهدار المليارات من الدولارات على تشكيل خلايا إرهابية في البحرين والسعودية والكويت ودول خليجية أخرى.. يضاف إليها هدرُ المليارات على المشروع النووي الإيراني، رغم أن إيرانَ منتجةٌ للنفط ولا تحتاج إلى الطاقة النووية، لكن طموحها التوسعي يجعلها متمسكة بالسلاح النووي.
هذا الإنفاقُ السخيُّ على تصدير الثورة الخمينية إلى الخارج انعكس بشكل سلبي على حياة المواطن الإيراني في الداخل.. حيث تعيش غالبيةُ العائلات الإيرانية تحت خط الفقر والبؤس المعيشي، وهو سبب كافٍ لاندلاع الثورات والحركات الاحتجاجية والمظاهرات كل عام.
سبب آخر للاحتجاجات الشعبية الأخيرة، والتي اتسمت بثورة الفتيات والنساء والشباب تحديدا في الآونة الأخيرة.. هو شعورُ هذه الفئة الشبابية في المجتمع الإيراني بأنها فئة مغبونة الحقوق الاجتماعية، خصوصا حين تعاقب فتاة مثل (مهسا أميني) بالقتل لسبب تافه جداً يتعلق بالحجاب وتغطية شعر الرأس للمرأة!! في الوقت الذي يشاهدون فيه نظيراتهن من النساء والفتيات في الضفة الأخرى من الخليج العربي يحققن مكاسب اجتماعية وسياسية واقتصادية وفنية وثقافية من دون الحاجة إلى التوقف كثيراً أو سن العقوبات على تغطية شعر رأس المرأة.. فالاحتشام الاجتماعي موجود في الدول الخليجية، والحجاب موجود والعباية موجودة، لكن ذلك لا يمنع غيرهن من النساء من الحصول على حقوقهن الاجتماعية والسياسية أيضاً.. ويمكن القول إن الطفرة الاجتماعية التي حققتها المرأة في السعودية والبحرين والكويت والإمارات وقطر وعمان في السنوات الأخيرة كانت حافزاً إيجابيًّا للمرأة الإيرانية بأن تناضلَ هي الأخرى للحصول على هذه الحقوق الطبيعية للمرأة التي كانت أصلا تمتلكها المرأةُ الإيرانية إبان حكم الشاه، وصادرها حكمُ الملالي بالقمع الوحشي منذ عام 1979 حتى الآن.. لذلك تستحق المرأةُ الإيرانيَّةُ نظامًا سياسيًّا منصفًا لحقوقها المسروقة.