من المقرر أن تكون قد بدأت الخطوات الإجرائية الرسمية لتنصيب أول امرأة في تاريخ إيطاليا رئيسة للحكومة؛ حيث إن مجلسي الشيوخ والنواب اجتمعا لانتخاب رئيسيهما ليبدأ رئيس الجمهورية سيرجيو ماتاريلا المشاورات السياسية لتكليف رئيس الحكومة الجديدة. ووفقاً لنتائج الانتخابات العامة التي أجريت يوم 25 سبتمبر/ أيلول الماضي، والتي حصل فيها حزب «إخوة إيطاليا» (فراتيلي ديتاليا) الذي تتزعمه جورجيا ميلوني على 26.2% من الأصوات، فإن تكليف ميلوني برئاسة الحكومة بات أمراً مؤكداً، وبذلك تكون أول امرأة منذ الوحدة الإيطالية عام 1861 تعتلي عرش الحكم وتتولى قيادة إيطاليا في ظروف شديدة الصعوبة.
كثيرون، ليس فقط في إيطاليا، ولكن أيضاً في الاتحاد الأوروبي وفي الولايات المتحدة يعدون تولي ميلوني السلطة زلزلاً حقيقياً، فإيطاليا إحدى الدول المؤسسة للاتحاد وثالث قوة اقتصادية في «منطقة اليورو»، إضافة إلى أن البعض يعدونها مقربة من رئيس الوزراء المجري فيكتور أوروبان المتمرد على الاتحاد الأوروبي. هؤلاء يأخذون على محمل الجد تصريحات ميلوني خلال حملتها الانتخابية، وبالذات قولها إن «الكل قلق في أوروبا لرؤية ميلوني في الحكومة.. انتهت الحفلة، وستبدأ إيطاليا بالدفاع عن مصالحها الوطنية»، وهي تفاخر علناً بهويتها الأنثوية وبأنها أم وتقول: «أنا جورجيا، أنا امرأة، أنا أم (لابنة وحيدة)، أنا إيطالية، أنا مسيحية»، وتكرر كثيراً «نعم للعائلة الطبيعية، لا للوبي مجتمع الميم (مجتمع الشذوذ الجنسي)، نعم للهوية الجنسية (الرجل رجل.. والمرأة مرأة) لا لأيديولوجيا النوع الاجتماعي (الجنس الثالث)».
وإلى جانب هذا كله، تؤكد دائماً أنها ضد الهجرة غير الشرعية إلى إيطاليا، وأنها بحكومتها ستحارب هذه الظاهرة. الإعلام الغربي كان حريصاً دائماً على وصم ميلوني وحزبها (إخوة إيطاليا) بالفاشية واليمينية المتطرفة. ودخل الرئيس الأمريكي جو بايدن ضمن حملة الترويع من تقدم تيار اليمين المتطرف، لدرجة إشارته إلى أن نجاح اليمين المتطرف في انتخابات إيطاليا دليل على أنه «خطر يواجه الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم». أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فقد أعلن عقب ظهور نتائج الانتخابات الإيطالية أنه يحترم «الخيار الديمقراطي» للإيطاليين الذي أدى إلى فوز اليمين المتطرف، داعياً إلى «مواصلة التعاون» مع الأوروبيين.
إن ما يشغل الرئيس الفرنسي، إلى جانب معظم كبار المسؤولين الأوروبيين هو مستقبل علاقة إيطاليا بالاتحاد الأوروبي. فرئيس الوزراء الهولندي مارك روته قال إن نتائج الانتخابات الإيطالية «مدعاة للقلق، لأن الأحزاب في تحالف ميلوني قالت وفعلت أشياء يجب أن تجعلنا يقظين»، مستشهداً بالاقتصاد وكذلك العلاقات مع روسيا. أما وزير المالية الفرنسي برونو لومير فقال إنه يأمل في أن تواصل حكومة ميلوني متابعة الإصلاحات الاقتصادية التي بدأها رئيس الوزراء المنتهية ولايته ماريو دراجي.
لذلك يبقى السؤال المهم هو ما حقيقة مواقف ميلوني وحلفائها من الديمقراطية والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي؟
الواضح الآن أن ميلوني مع حلفائها لم يصدر عنهم ما يمكن اعتباره تهديداً للديمقراطية، خاصة إذا أخذنا في اعتبارنا أن الديمقراطية الحقيقية لم تعد هي ديمقراطية أوروبا أو أمريكا التي باتت «أوليغارشية» (حكم الأقلية)، وليست حكومة تمكين الأغلبية الشعبية التي هي أصل الديمقراطية. كما أن ميلوني تؤمن بإيطاليا وتتحفظ على سطوة الاتحاد الأوروبي على القرار الوطني الإيطالي، لكنها وبعد أن باتت قريبة من كرسي الحكم أضحت متيقنة باستحالة العمل في اتجاه معاكس لحركة الاتحاد الأوروبي؛ لذلك نجدها تصرح عقب فوزها أنها «ستمارس الحكم من أجل الجميع». كما كان في صلب البرنامج الانتخابي للتحالف اليميني تأكيد الانتماء الأوروبي والأطلسي لإيطاليا بعيداً عن الانعزالية، لكن الأهم أن إيطاليا في ظل الأزمة الاقتصادية القاسية والارتفاع غير المسبوق في أسعار النفط والغاز لن تملك ترف الانعزال عن أوروبا. فالاقتصاد الإيطالي يعتمد بشكل كبير على المؤسسات الاقتصادية والمالية الأوروبية، وهو في أمسّ الحاجة إلى الحصول على مبلغ ال 200 مليار يورو التي خصصها صندوق التعافي الاقتصادي الذي تقوده المفوضية الأوروبية لإيطاليا سواء في صورة منح أو قروض. هذه المساعدة، التي من دونها يصعب تعافي الاقتصاد الإيطالي من ركوده، مشروطة باحترام الأعراف الديمقراطية. كل هذا يعني أن ميلوني قد تكون مضطرة للتكيف مع هذه الضوابط الأوروبية وأن تكون «برغماتية» في شعاراتها وسياساتها كي تحقق طموحاتها السياسية حتى لو اضطرت إلى مجاراة الأوروبيين في أزمتهم مع روسيا.