كان لافتا، في الصورة التي نشرتها وسائل الإعلام يوم الثلاثاء الماضي وجمعت القادة العرب الذين توافدوا إلى جمهورية مصر العربية، للبحث في تعزيز الشراكة الاستراتيجية وفتح آفاق جديدة للتعاون العربي المشترك معها، وجود رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي، وهو الذي رفضته الأحزاب الولائية قاطبة ليكون رئيسا لوزراء العراق لاتهامه بالتآمر مع أمريكا في اغتيال أبومهدي المهندس وقاسم سليماني، وتعرض لمحاولة انقلاب أو اغتيال فاشلة من الجماعات الولائية في عام 2021 لعلها -أيا كان وصفها- تعطي الدليل على أن الكاظمي قد يكون من أفضل من جاء بعد إياد علاوي لرئاسة وزراء العراق، إذ إنه، بخلاف الثلاثة الذين سبقوه، لم يكن الدمية المرجوة التي تحرك خيوطها المافيات المتحكمة في المشهد السياسي العراقي منذ دستور بريمر، ولم يكن طيعا لما كانت تريد الجماعات الميليشياوية تنفيذه في العراق.
لقد كان حضور الكاظمي مع قادة مملكة البحرين والإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن ممثلا للعراق في الصورة المتداولة لافتا، لأنه بشارة بعودة الدر العراقي إلى معدنه العربي، ولم يكن أبدا مستغربا، لأن قدر العراق بعد هول ما شهده في العقود الثلاثة الأخيرة أن يسترد عمقه الاستراتيجي العربي بطبقة سياسية وطنية جديدة تقطع دابر من خان وباع من تجار السياسة وسماسرة الأوطان، وقد خلف لدي وجود من يمثل هذه الدولة العزيزة على قلوب العرب مشاعر تراوحت بين الفرح الغامر والأسى الشديد. فما سر هذا التردد بين هذين الشعورين؟
لقد غمرني الفرح لأني وجدت في الصورة التي ضمت القادة وبمعيتهم مصطفى الكاظمي ملامح وطنية وانتماء عروبيا وحرصا على إعادة الهيبة للدولة العراقية ترتسم في ذهني، وتضاعف هذا الإحساس عندي بأن العراق قد بدأ يعود إلى حضنه العربي، إلى بيئته، إلى تاريخه العريق وثقافته الأصيلة، وانتابني في الوقت نفسه أسى شديد للحال التي صار إليها هذا البلد بسبب الأحزاب الدينية والميليشيات الولائية. العراق يحتاج للخروج من وضعه الراهن والحالة التي تردى فيها إلى عمل سياسي داخلي مضني ينبغي أن تنبري له قوى الدولة المدنية لتعمل على تحجيم الأحزاب الدينية التي انتهكت الأرض والعرض؛ فوجود العراق فاعلا مع أشقائه العرب هو الطبيعي وغيابه الذي عمد رؤساء وزراء العراق بأوامر إيرانية منذ نوري المالكي في عام 2006، وهو الضالع في التآمر مع إيران بدخول داعش إلى الموصل، وحتى عادل عبدالمهدي الذي اقتلعه التشرينيون في عام 2019، وضع غير طبيعي ولا يستقيم عقلا ومنطقا.
العراق عمق استراتيجي للدول العربية عموما ولدول مجلس التعاون على وجه الخصوص وهو ما ينبغي توظيفه لخدمة قضايا العرب كما حدثنا التاريخ بذلك في كل الأزمان، ولكن هذا العراق يشكو اليوم عوارا قوميا وانتهاكا سياديا وفسادا غير مسبوق كان من نتيجته فقرا مدقعا لنسبة مرتفعة من شعبه، إذ تجهد جماعات ولائية وأحزاب سياسية دينية إلى حرف مسار تاريخ هذا البلد من أن يكون ذخرا وذخيرة للعرب إلى أن يصبح خنجرا مسموما بيد إيران ضد العرب، وإلى العبث بمقدرات هذ البلد ونهبها وممارسة صنوف الفساد لإفقار الشعب وإخضاعه قسرا حتى يكون مرتهنا لها.
مما لا شك فيه أن هناك قوى خيرة في العراق تجلت ملامحها في جحافل شهداء الكلمة الحرة من الإعلاميين والصحافيين والمفكرين والأدباء الذين اغتالتهم قوى الردة الولائية والداعشية، واتضحت أكثر مع التشرينيين الذين ألغوا بتمردهم أكذوبة التفرقة الطائفية وهبوا صوتا واحدا ينادي بطرد إيران ومحاسبة أذنابها وبعودة العراق إلى وضعه السيادي الطبيعي، ويبدو أن مصطفى الكاظمي عطفا على ترشيحه من قبل بعض التشرينيين واحد من قوى العراق الخيرة التي تعمل على التعاون مع التشرينيين ضد مساعي الولائيين لربط القرار السيادي العراقي بإيران، ومن أجل هذا يتوجب دعمه ليعود رئيسا للوزراء أو ليأتي من هو خير منه.
مصطفى الكاظمي أسس لعلاقة جيدة مع جوار العراق العربي، وخصوصا مع المملكة العربية السعودية، بعد أن كانت هذه العلاقة على مدى 17 عاما الماضية في مهب الريح، وكان كل رئيس وزراء جديد، بخلاف مصطفى الكاظمي، يأتي بأجندة تعمل على تكريس التبعية والارتهان لحكم الملالي في إيران. حدث ذلك مع حيدر العبادي والمالكي وعادل عبدالمهدي. أما مصطفى الكاظمي فقد حرص على إقامة علاقات ممتازة مع المملكة العربية السعودية ومع الدول العربية الأخرى ليحدث التوازن في علاقات العراق الخارجية.
كل ما نرجوه أن يكون هناك تأثير ما للحس القومي العربي في سير الأزمة المستفحلة لتشكيل الحكومة يقود إلى مخرج ينهي هيمنة الأحزاب السياسية الولائية على السلطة ويؤسس لقيام الدولة العراقية التي تسكن في ذاكرتنا العربية ويفتح مخرجا آمنا للطبقات الاجتماعية العراقية لتنعم بوطن حلموا به طوال فترة الدكتاتورية سنية كانت أم شيعية.