يُنقل عن رئيس الحكومة اللبنانية السابق سعد الحريري الذي قرّر مقاطعة الانتخابات النيابية التي تشهد جولتها الأخيرة، يوم الأحد المقبل، قوله ردّاً على ضغوط حلفائه السابقين في لبنان والسعودية من أجل دعوة الموالين له للمشاركة الكثيفة في الاقتراع: "هذه الانتخابات النيابية لا تعني لي شيئاً، فإذا أخذ "حزب الله" الأكثرية النيابية يكون قد انتصر، وإذا خسرها، فهو سوف يفرض على الأكثرية الجديدة ما يريده، وفي هذه الحالة يكون قد انتصر أيضاً".
ووفق زوّار الحريري، فإنّه يقول قوله هذا ويطلب منهم الانتقال للحديث في شؤون "أكثر نفعاً".
كلام الحريري هذا يتكامل مع "يأسه" الذي كان قد أعلنه في بيان مقاطعة الانتخابات النيابية وتعليق العمل السياسي، حيث قال، في الرابع والعشرين من يناير الماضي:" لا مجال لأيّ فرصة إيجابية للبنان، في ظلّ النفوذ الإيراني والتخبّط الدولي والانقسام الوطني".
ومن الزاوية التي ينظر منها الحريري إلى التفاصيل اللبنانية، هو لا يجانب الواقع في كلامه، إذ أنّها خلاصة دقيقة لمآلات النهج الذي اتّبعه، منذ دخوله إلى العمل السياسي، بُعيد اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، في الرابع عشر من شباط 2005، في عملية نفّذها جهاز أمني تابع لـ"حزب الله"، وفق ما أكّدت "المحكمة الخاصة بلبنان" – وهي محكمة شكّلها مجلس الأمن الدولي- في قرارين أصدرتهما، تباعاً، غرفتا الدرجة الأولى والاستئناف فيها، حيث تمّ تجريم ثلاثة متّهمين كان "حزب الله" -ولا يزال- يوفّر لهم الحماية والملاذ.
وحين اتّخذ الحريري هذا الخيار كانت علاقاته السياسية مع حلفائه اللبنانيين، ولا سيّما مع حزب "القوات اللبنانية" برئاسة سمير جعجع، وداعميه الإقليميين، ولا سيّما مع المملكة العربية السعودية، قد وصلت إلى مستوى رديء للغاية.
ومع إعلان الحريري تعليق العمل السياسي، وفي ضوء الترتيبات التي أنجزتها فرنسا، بناء على اتفاق مسبق بين رئيسها ايمانويل ماكرون وولي العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان، عادت الرياض إلى بيروت، وسط "حماسة" لدفع اللبنانيين عموماً وأبناء الطائفة السنية خصوصاً إلى المشاركة الفاعلة في الانتخابات النيابية.
ولكنّ هذا التعديل الذي أدخلته الرياض على سلوكها اللبناني، لم يلقَ تفاعلاً إيجابياً من الحريري، بل أصرّ على قراره، الأمر الذي انعكس هجوماً إعلامياً قاسياً شنّه الإعلام السعودي عليه، في مقابل، تبنّيه جميع من "تمرّد" على قرار الحريري وانتقده ووضعه في خانة تقديم خدمات ذهبية لـ"حزب الله".
ولكن هل أخطأ الحريري وأصاب معارضوه من "أهل البيت" ومن الحلفاء المحليين والإقليميين؟
في الواقع، لا يمكن أن يكون الحريري قد أخطأ إذا اعتمد المشاركون في الانتخابات النيابية النهج الذي طالما اتّبعوه معاً، منذ الصفقة السلطوية التي أملت في فبراير 2014 تشكيل حكومة الرئيس تمّام سلام، ومهّدت الطريق أمام إيصال ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية في آخر أكتوبر 2016، وأنتجت القانون الحالي للانتخابات النيابية الذي نقل الأكثرية البرلمانية، في انتخابات العام 2018 إلى عهدة المنظومة التي أنشأها "حزب الله" وعاد وحماها، في وجه "ثورة" 17 أكتوبر 2019.
وإذا ما أعيد "تجديد شباب" هذا النهج، بعد صدور نتائج الانتخابات المقبلة، بغض النظر عن الجهة التي سوف تحوز على الأكثريّة النيابية، فهذا يعني أنّ الحريري يكون قد أصاب في ما ذهب إليه، لأنّه، والحالة هذه، تكون الانتخابات مثلها مثل عيد رأس السنة: جلبة، احتفالات، وعود، تمنيات وتخمينات سرعان ما تصبح وهماً، عندما يتبيّن أنّ الأيّام التالية لا تختلف مطلقاً عن الأيّام السابقة.
ما هو النهج الذي ظهر عقمه؟
الإجابة التفصيليّة عن هذا السؤال لا تكفيها المساحة التي يجب أن يلتزم بها أيّ مقال، ولكن باختصار مفيد، فإنّ النهج المشكو منه، يقوم على معادلة الشراكة السلطوية مع "حزب الله"، من دون قواعد سياسية ووطنية واضحة وموضوعية ومنتجة، إذ إنّ من يرفع الشعارات المعادية لسلاح هذا الحزب ولسلوكه الترهيبي في الداخل وأدواره العسكرية في الخارج، لا يتوانى، عندما تُعرض عليه حصّة "مغرية" في السلطة، عن الدخول في شراكة مع الحزب والمنظومة التي يشكّلها، واضعاً كلّ ما رفعه من شعارات في الدرج.
وقد شكّل "حزب الله" أكثر من مرّة حكومات محسوبة عليه، ولكنّها كانت تنعكس وبالاً عليه، فيعمد إلى إسقاطها، بعد أن يضمن شراكة القوى الوطنية المناوئة له، شرط أن تنأى بنفسها عن البحث في مسائل استراتيجية تهمّه كمسألة سلاحه أو كمسألة تدخّله العسكري في الدول والأقاليم التي تهمّ "فيلق القدس" في "الحرس الثوري الإيراني".
وفيما أفاد هذا النهج تمدّد هيمنة "حزب الله"، فإنّه ألحق بلبنان أضراراً فادحة، بحيث أساء إلى علاقات اللبنانيين بعضهم بالبعض الآخر، وشوّه صلات لبنان بأهمّ الدول المساندة، وأفقد الحكومة فاعليتها، وسحب من مجلس النوّاب أدواره الرقابية، ووزّع الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة على المحاسيب، واستتبع القضاء، وأهدر المال العام، وهرّب الاستثمارات، وهدّم القطاعات الاقتصادية الأساسية، وفقّر الشعب ويأّسه وهجّره.
وعليه، فإنّ السؤال المركزي الذي على أساسه يمكن الحكم مستقبلاً على صحّة المشاركة في الانتخابات أو على صحّة مقاطعتها، يتمحور حول الآتي: هل سوف يغيّر جميع من يخوض الانتخابات النيابية تحت عناوين مناوئة لسلوك "حزب الله" وسلاحه، النهج القديم، أو أنّهم سوف ينقلبون، بعد فرز صناديق الاقتراع، على ناخبيهم ويعودون الى المعادلات التي أوصلت البلاد الى الجحيم؟
إذا اعتمدنا على "الأسباب الموجبة" التي أوردها الحريري في تبريره لقرار المقاطعة، وإذا اعتبرنا أنّ الحريري صاحب تجربة طويلة مع شركائه السياسيين السابقين، فهذا يقودنا إلى الظنّ بأنّ النهج الذي كان سوف يدوم، وتالياً فإنّ اليوم الذي سوف يلي الانتخابات لن يكون إلّا مثل ذاك اليوم الذي كان قد تلي كلّ الانتخابات التي حصلت بعد الانسحاب السوري من لبنان، في أبريل 2005.
وهذا يعني أنّ القوى التي سوف تفرزها صناديق الاقتراع، سوف تدخل في صراع على حصصها في عملية تشكيل حكومة توافقية، مبرّرة ذلك بأنّ الحكومة الجديدة قد تكون هي الحكومة التي سوف تقود مرحلة الفراغ الرئاسي، في حال لم يتم التوصّل إلى توافق لمرحلة ما بعد انتهاء ولاية الرئيس عون.
وفي هذه الحالة، فإنّ "حزب الله" سوف يرعى عملية تشكيل الحكومة، وسوف يذهب في أيّ اتجاه يمكن أن يخدم مصالحه.
وما يمكن أن تنتهي إليه معادلات تشكيل الحكومة سوف يتجدّد في موضوع رئاسة الجمهورية الذي سوف يعمل "حزب الله" على أن يكون ضمن 3 خيارات تناسبه: الفراغ الرئاسي، انتخاب الشخصية التي يمكنها أن تخدمه، والتمديد للرئيس الحالي.
وهذا يعني أنّ لبنان سوف يبقى عالقاً في الدوّامة نفسها التي أسقطته في جهنّم. ولكن، ما هو البديل؟
يقتضي إنقاذ لبنان اللجوء الى خيارات سلطوية أخرى، دفعت أحد المخضرمين السياسيين إلى القول: " يكمن رأس الحكمة في لبنان في التخلّي عن الحكمة نفسها".
في اعتقاد هذا الشخص أنّ اعتماد الواقعية السياسية في لبنان، بمفهومها التقليدي القائم على توازن القوى، لم يعد يجدي نفعاً، لأنّه يُجدّد للنهج الذي ثبت بطلانه.
وهذا يفرض، من وجهة نظره، على جميع القوى المهتمة فعلاً بإنقاذ لبنان، أن تضع تشخيصاً كاملاً لأسباب انهيار الدولة وتصوّراً لموجبات إعادة بنائها، على أن تكون خلاصات ما توصّلت إليه، هي البوصلة التي يتم اعتمادها للمشاركة في السلطة أو الذهاب الى معارضة فاعلة ونشطة وجامعة.
وهنا، لا بدّ من تشريح دقيق لوضعية "حزب الله" بحيث يصبح التمييز ممكناً بين المقبول من جهة والمرفوض من جهة أخرى.
كما لا بدّ من البت النهائي في الطريقة الواجب اتّباعها حيال الدعوات التي أطلقتها مرجعيات سياسية وروحية لجهة وجوب تحييد لبنان، وتطبيق القرارات الدولية، والاستعانة بالمرجعيات الدولية المتوازنة من أجل وضع خطة إنقاذية شاملة.
ويمكن في هذا السياق، الاعتماد على دعم شرائح لبنانية واسعة، كما على التفاهم الفرنسي-السعودي بخصوص لبنان، مع إمكان توسيعه في اتجاه إيران، بصفتها الراعية المادية والعقائدية والسياسية لـ"حزب الله"، ومجلس الأمن الدولي الذي يضمّ الشرق والغرب في آن، على اعتبار أنّه هو منتج القرارات السيادية اللبنانية، ومن بينها القرارات 1559، و1680 و1701.
إنّ لبنانيين كثراً توجّهوا في المغتربات ويتوجّهون في الداخل إلى صناديق الاقتراع على قاعدة إعطاء فرصة للتغيير، فإذا حصلوا على النتائج التي يتوخونها انتصروا وسائر اللبنانيين، وإذا حصدوا، مرّة جديدة، الخيبة، فلن ينتظر المخيِّبون دورة العام 2026 النيابية، حتى يخسروا ما اكتسبوه بالتدليس الدعائي، وتجربة 17 أكتوبر 2019 التي أتت من حيث لم يكن ينتظرها أحد، دليل مهم وتهديد لا يقف أمامه تهديد الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله حين صرخ في وجه من يطالب بنزع سلاح حزبه: فشرتوا!