عند الموارنة، على المسيحي أن يعترف، أقلّه مرّة واحدة في السنة، ويُفضّل أن يحدث ذلك، قبل المشاركة في قدّاس الفصح!
وهذا تحديداً ما فعله رئيس الجمهورية ميشال عون، يوم الأحد الماضي، في بكركي التي يرفع سيّدها لواء المشاركة الشعبية الفاعلة في الانتخابات النيابية لمصلحة لبنان السيّد، الحر والمستقل، "حيث تبسط الدولة سلطتها على كامل أراضيها، وتوحّد السلاح والقرار، عملا بقرارات مجلس الأمن، وتعتمد الخيارات الاستراتيجية التي تعزز علاقات لبنان مع محيطه العربي والعالم الديمقراطي، وتوجب احترام سيادة الدول وحسن العلاقات معها، وتوقف الحملات على هذه الدول الشقيقة، خاصة وأنها حملات لا علاقة لها بمصلحة لبنان، بل بمصالح دول أجنبية".
في هذا الإعتراف، أطلق الرئيس عون النار على "الثنائي الشيعي" حليف "التيّار الوطني الحر" الذي أسّسه هو، ويتزعّمه بإرادته، صهره النائب جبران باسيل.
وفق عون المدعوم من "حزب الله" والذي يخوض حزبه الانتخابات في لوائح موحّدة مع "الثنائي الشيعي"، إنّ من سبق أن عطّل مجلس الوزراء، بعد أقلّ من شهر على انطلاق أعمال الحكومة الحالية، هو من يعطّل التحقيق في ملف انفجار مرفأ بيروت، داعياً ذوي ضحايا هذا الإنفجار الى التوجّه إلى هذا المعطّل الذي يعلمون من هو.
وعندما سئل عن التشكيلات القضائية المتعلقة برؤساء محاكم التمييز وبيان وزير المال الذي تحدث عن "خطأ أساسي" فيها، أجاب: "ليس هناك أيّ خطأ أساسي، بل هناك عرقلة ويجب أن تعلموا من يعرقل، فليتوقفوا عن الكذب عليكم".
بالإستناد الى ما كشفه رئيس الجمهورية، فإنّ على رافعي شعارات المساءلة والمحاسبة والحقيقة والعدالة وعدم الإفلات من العقاب وإقامة السلطة القضائية المستقلة، أن ينشطوا، في الانتخابات النيابية، ضد كلّ أنواع التصويت، الإيجابية والسلبية، ل"الثنائي الشيعي"، ولجميع من يحالفه سياسياً أو إنتخابياً، وفي مقدّم هؤلاء "التيّار الوطني الحر"، لأنّ التحالفات التي رعاها "حزب الله" وينسّقها ويدعمها، تحمل أهدافاً أبعد من صناديق الإقتراع، وهي على صلة مباشرة، بصياغة مستقبل لبنان.
وأتى اعتراف الرئيس عون، على بعد ساعات من الحدث-الفضيحة الذي سجّله المراقبون المحليّون والدوليّون، حيث انقضّت مجموعة تابعة لهذا "الثنائي الشيعي"، بالرصاص والضرب والترهيب والبلطجة، لمنع لائحة جنوبية معارضة من أن تقيم، في بلدة الصرفند الجنوبية، احتفال إطلاق لائحتها الانتخابية في دائرة صور-الزهراني التي حملت إسم "معاً للتغيير".
وقد اعتبر سبعون مرشّحاً من 11 لائحة تغييرية في 11 دائرة إنتخابية أنّ "هذا الإعتداء ينذر بنيّة أحزاب السلطة وعلى رأسها أمل و"حزب الله" منع أي نشاط إنتخابي ديمقراطي في مناطق نفوذها".
وهذا يفيد أنّه حتى تلك القوى التي ابتعدت، سواء لأسباب مبدئية أو تكتيكية، عن رفع الشعارات والتحالفات المناوئة لسلاح "حزب الله"، تؤكّد أنّ "الثنائي الشيعي" وحلفاءه هم خطر أكيد على الديمقراطية، إذ إنّهم يسعون الى استغلالها، من أجل تحقيق أهداف معادية لها.
وقبل أيّام من "اعتراف بكركي" و"بلطجة الصرفند"، وتحديداً في الرابع عشر من نيسان/أبريل الجاري، وخلال كلامه أمام مجلس الوزراء كشف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أنّ أكثر من نصف كمية القمح التي استوردها لبنان في شباط (فبراير) الأخير "جرى تخزينها أو تهريبها".
وشكّك اتحاد نقابات المخابز والافران في فرضية التخزين، على اعتبار أنّ الأفران تتسلّم الطحين وفق أذونات خاصة صادرة عن وزارة الاقتصاد التجارة، وغالبية هذه الأفران تنتج الخبز بحسب كميات الطحين المخصص لكل منها.
وهذا يعني أنّ التهريب الذي له معابره وعصاباته المعروفة والمحميّة والمدعومة من "حزب الله" والمخابرات السورية، يواصل حرمان اللبنانيين من آخر "الخيرات" التي يدعمها مصرف لبنان بمّا تبقى لهم من احتياطات في عهدته.
ومسار نهب ما يتم استيراده بتمويل من الإحتياط المالي الإستراتيجي يتواصل منذ سنوات، إذ إنّ نصف الكميات التي استوردها لبنان، منذ خريف العام 2019 حتى الأمس القريب، وفاقت قيمتها 17 مليار دولار أميركي، جرى تهريبها.
والعارفون بأحوال السوق السوداء السورية التي يشتري منها المقتدرون السوريون موادهم الغذائية ومصادر الطاقة الخاصة بمنازلهم وسيّاراتهم، وفي مقدمها الخبز والمازوت والبنزين والدواء، يكشفون أنّ غالبية البضائع المتوافرة مصدرها لبنان وتعود مداخيلها الى "شركاء" يسيطرون على ضفّتي الحدود.
وتجنّب مجلس النواب، في أكثريته الحالية التي تسعى الى تعزيز نفسها في الانتخابات النيابية المقرّرة في منتصف أيّار (مايو) المقبل، مناقشة أسئلة نيابية عدّة سبق أن وجّهها أكثر من نائب معارض، عن عمليات التهريب من لبنان الى سوريا، خصوصاً وأنّ أصابع الإتهام المحلية والدولية تشير الى دور رائد يلعبه "حزب الله" في هذه الفضيحة المتمادية.
وفي "حسبة" بسيطة لكمية العملات النادرة التي خسرها لبنان من جرّاء التهريب، يظهر أنّها تفوق بضعفين وأكثر تلك المليارات الثلاثة التي قد يقرضها "صندوق النقد الدولي" للدولة اللبنانية، على امتداد أربع سنوات، في حال نفّذ لبنان التزاماته الإصلاحية التي جرى الاتفاق الأوّلي عليها.
ولن يحصل لبنان، بالمحصّلة، على قرش واحد من هذا الصندوق ولا من الدول التي تنتظر التوصّل الى اتفاق نهائي لتقديم مساعداتها له، في حال بقيت عمليات التهريب بين لبنان وسوريا، على ما هي عليه، لأنّ كلفة هذه العمليات أكبر بكثير من قدرة الاقتصاد اللبناني، ومن شأنها أن تحبط كلّ مخططات الإنقاذ المكلفة كثيراً للبنان ولشعبه.
وليس من قبيل العبث ولا من باب النكد أنّه جرى لبنانياً وعربياً ودولياً "تعويم" القرار 1680 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، إذ إنّ هذا القرار يلزم بترسيم حدود واضحة بين لبنان وسوريا، وبمنع تهريب الأسلحة والبضائع والأشخاص من خلالها.
وكان قد جرى تزويد الجيش اللبناني برادارات كفيلة بضبط حركة الأشخاص والعربات، على امتداد الحدود اللبنانية-السورية.
وفي تقارير صدرت سابقاً عن وزراء كانوا قد تولّوا وزارات النقل والمال والدفاع، إتّضح أنّ كلّ الأجهزة المعنية بمراقبة الحدود اللبنانية السورية، تعرف أدق التفاصيل المتصلة بمعابر التهريب وبالعصابات التي تتولّاها وتشرف عليها، ولكنّها، بفعل الحماية التي يوفرها "حزب الله" والمخابرات السورية لهؤلاء، تقف عاجزة عن حماية السلّة الغذائية اللبنانية واحتياطات الشعب اللبناني الإستراتيجية.
كثيرون يفتّشون عن حلول لهذه المعضلات الكبرى التي تسجّل ميدانياً ويكشفها كبار المسؤولين اللبنانيين، ولكنّهم يعترفون بعجزهم عن ذلك.
حالياً، وفي زمن الإستحقاق النيابي، يرمي الجميع المسؤولية على الشعب اللبناني، إذ يعتبرون أنّ تفاقم الأحوال أو إنقاذ البلاد معقودان على عملين عليه القيام بهما: التوجّه الى صناديق الإقتراع، وانتخاب "الإنقاذيين".
البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي ومفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان ومتروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده وغالبية الرؤساء الروحيين ذهبوا في هذا الإتّجاه، ولعلّ ما تضمّنته "رسالة الفصح" التي ألقاها الراعي تختصر هذا التوجّه "المتّفق عليه"، إذ قال: "إذا لم يتنبه الشعب إلى خطورة المرحلة ويقدم على اختيار القوى القادرة على الدفاع عن كيان لبنان وهويته، وعلى الوفاء لشهداء القضية اللبنانية، وعلى إعادة علاقات لبنان العربية والدولية، فإنه، هذا الشعب نفسه، يتحمل هو، لا المنظومة السياسية، مسؤولية الانهيار الكبير."
من دون شك إنّ الانتخابات النيابية في دورتها الحالية، لها أهمية خاصة، لأنّها تقع في مفترق استراتيجي، فهي إمّا تلاقي الحراك الإقليمي والدولي الواعد فتعزّزه وترفده بما يحتاج إليه من شرعية شعبية ومؤسساتية، وإمّا تترك لبنان على ما هو عليه، فينزلق إلى درك جديد من مدارك الجحيم.
ولكن على كل من يحاول أن يُلقي المسؤولية على الشعب اللبناني أن يلتفت الى واجبه في العمل الحثيث على فضح "الزبائنية" التي تستتبع المواطن للحاكم وللمستحكم وللأقوياء وللمرضى عنهم، وعلى توفير مظلّة واقية للتغييريين من أجل أن يتمكّنوا من التعبير عمّا يريدونه، من دون أن يكونوا عرضة للتهديد والوعيد والترهيب، وعلى أن يعترفوا مسبقاً بأنّ نتائج الانتخابات في المناطق التي يسود فيها السلاح وتسيطر عليها قوى القهر والإغتيال يستحيل أن تكون انعكاساً حقيقياً لإرادة الشعب الحقيقية.
صحيح أنّ الشعب، عندما يتم استدعاؤه الى صناديق الإقتراع يتحمّل المسؤولية، ولكن هذا يصح في دول لا تقتصر ديمقراطيتها على يوم الانتخابات، بل تنسحب على الأجواء التي تمهّد لهذا اليوم.
وفي لبنان هذا الشرط الضروري لتحميل الشعب المسؤولية الكاملة عمّا سوف تنتجه صناديق الإقتراع ليس متوافراً!
في لبنان الرؤساء يفضحون شركاءهم والشعب...مسؤول!
مواضيع ذات صلة