أفرزت التغييرات العاصفة في مجتمعنا العراقي بعد سقوط الدكتاتورية سنة /2003 بروز ظواهر الاحتماء بفيء العشائريّة والانسلال نحو خيمة التمذهب الطائفي بشكلٍ يدعو للقلق حقا؛ بينما تنادى البعض من العلمانيين حقاً -- وليس كلهم -- بضرورة تأسيس "الدولة المدنية" باعتبارها دواء شافيا للكثير من أمراض المجتمع الخارج توّا من حفر الدكتاتورية وقبورها التي دفنت الحرية والرأي الآخر بكمٍ هائلٍ من تراب القهر والحرمان؛ لكنّ مساعيهم خابت بالفشل الذريع أمام ضخامة الاحتماء بالطائفة والتعلّق والانضواء في صفوف القبيلة ما دامت الدولة الواهنة لا تستطيع تأمين الحماية الكافية وعدم قدرتها على فرض القانون لا بالإقناع ولا بالقوة.
عندما أجول في مدينتي بغداد تصدمني لافتات ولوحات تشير إلى مقرٍّ معين لعشيرةٍ ما يجتمعون معا فيه بلا اية مراعاة للقانون المدني وضاربين عرض الحائط ما تسنّه الدولة وما يقرره القضاء في شؤون المنازعات والأحكام وكثيرا ما أشعر بالخجل والحزن الشديدين وأنا أرى صبغات تهديد على جدران بيوت تومئ بان ساكني هذا البيت مطلوبون عشائريا ولابدّ ان يهدر دمهم وأسمع بين فترة وأخرى نزاعات عشائرية بين قبيلتين متجاورتين تصل الى حدّ استخدام كل أنواع الأسلحة النارية المعقدة والفتّاكة بما فيها الطائرات المسيّرة ولا يعبأون بالدولة مطلقا.
وها قد مرّت أكثر من ثمان عشرة سنة على الإطاحة بالدكتاتورية ولم نلمس ايّ تغيير باتجاه المدنية وتثبيت أطر التطور بهذا الاتجاه بل بالعكس ازدادت هذه الاصطفافات وترسخت أكثر فأكثر.
وقد بُحّ صوت المنادين بالدولة المدنية باعتبارها اللبنة الاساسية الاولى لبناء مجتمع خالٍ من التناحر الطبقي والعِرقي والمذهبي ولم تصل الى اسماع الناس بان المواطنة هي الأساس وان الدولة لا تعلو أبدا ولا تنهض سياسيا واقتصاديا اذا كان اساسها هشّا وقائما على التطرّف الديني والبناء العشائري المائل الجدران او مسايرة الأعراف القبلية والتقرّب الى شيوخ العشائر والأغوات وما يطلق عليهم وجهاء القوم الذين نصّبوا انفسهم رعاة الشعب وقادته.
ورغم ما يقال عن "مثالب" العلمانية وعدائِها للاصطفاف الطائفي والقبلي لتخليص المجتمع من التبعات التي تنجم فيما لو ترسّخ فيه فانها قد عثرت ايضا على الكثير من الحلول والقواعد الواجب اتّباعها لترسيخ مبدأ المساواة ومحاربة استعمار القبيلة للفرد ومجابهة التطرّف الديني دون المساس بالدين كعقيدة؛ فالإنسان حرّ في ان يختار ما يروق له من معتقد على ان لا يطغى به على مجتمعه وكذلك الحال بالنسبة لزعيم القبيلة الذي يجب ان يقف عند حدّه ولا يتدخل في مسار توظيف المؤسسات الحكومية التي تريد فرض القوانين المدنية.
لا ننكر ان الإنسان قد يلجأ الى قبيلته ويحتمي بطائفته اذا شعر يوما ما ان الدولة اضعف من ان تسانده وقد لمسنا الكثير من الحالات في بلادنا حيث التفّ العديد من اهالينا واحتموا في خيمة مذاهبهم وعشائرهم ووصل الامر الى حدّ ان غالبية دعاة الدولة المدنية والمحسوبين على العلمانية انضووا ايضا والتفّوا حول حلقة الطائفة مما اثار السخرية والاستهزاء وكان الامر بمثابة مشهد مضحك مبكٍ في مسرحية مليئة بالأحداث المتناقضة والغريبة مما عزّز مريدو الطائفية مكانتهم وثقلَ رصيدُهم في صفوف المجتمع وكان لهم كلمتهم الفصل في توجيه دفّة الدولة وفق ما يشتهون وسيّروا ركبنا في طرقٍ معوجّة وملتوية صعبة المسلك ولا ندري متى يحطّ ركابنا ونستقرّ على ارض مستوية كي نهنأ ونعيش في ربوعنا بسلام واطمئنان وراحة بال.
لكن البلوى الكبرى ان الكثير من ساستنا لازال يغذي الفكر العشائري والتوجّه القبلي ويزرعه في ارضنا بحجة ان المجتمع العراقي قائم بالأساس على العشائرية ومن مكوّناته الاساسية. وترى السيد فلانا مستشارا لرئيس الوزراء لشؤون العشائر وذاك خبيرا عشائريا من الدرجة الاولى في اهمّ الوزارات التي تعنى بالأمن وسلامة المواطنين ناهيك عن الجمعيات والمقارّ المنتشرة في الكثير من الاحياء والمدن والتي تلمّ اعضاءها وتجمع شتاتهم وتدعو المحسوبين عليهم ليكوّنوا كيانا اجتماعيا بديلا عن سطوة الدولة وثلم هيبتها وليت هذا الكيان يقف عند حدّه فنراه يتمادى في ممارساته ويقوم بفرض مبدأ العقاب والثواب كأن الله تعالى بقانونه السماوي وجهابذة رجال القانون الوضعي منحوه صلاحية التحكّم بأبناء قبيلته وفضّ نزاعاتهم او تأجيجها تبعا لهواه.
المؤلم ان لا أحد من ساستنا الكبار من يستطيع أن يكمم أفواه هؤلاء ويصرخ في وجوههم: اخرسوا. ولا ندري لماذا هذا السكوت المطبق؛ ربما لغاياتٍ في أنفسهم والتي تريد لبلادنا ألاّ تنهض وتقف على قدميها وليتني أكون على خطأ وتكون هواجسي قد أخذتني الى مسالك لم أطأها قبلا بسبب صفاء نيتي وتعلقي المفرط ببلادي والتي لا اريد لها أن تتوه في متاهات التخلف والتراجع الى الوراء بينما الدول الأخرى قطعت أشواطا مهمة في الرقي والتقدم والرخاء ونبذ المعوقات وترسيخ مجتمعات مدنية ناهضة.