واكب لبنانيون كثر كل ما يتّصل بإعلان السلطات العراقية اعتقال ضابط الشرطة أحمد الكناني، المتهم الرئيس بتنفيذ اغتيال هشام الهاشمي، في ٦ تموز(يوليو) ٢٠٢٠، أمام منزله في بغداد.
ولم تكن هذه المواكبة من باب "حبّ الاطلاع"، بل انطلاقاً من "وحدة الحال" التي لا تجمع الشهداء في البلدين فحسب، بل المجرمين أيضاً.
وفي هذه المتابعة يتبيّن أنّ المتهم "مناصر" لـ"حزب الله" العراقي، فيما الهاشمي، عشية اغتياله، كان، وفق الجهة التي قتلته، "عميلاً اميركياً".
وهذه ميزة توحّد الدماء اللبنانية والعراقية، إذ إنّ جميع الشهداء، أحياء في السماء أم في الارض، من مروان حمادة الى لقمان سليم، كانوا قد تعرضوا، قبل الهجوم عليهم، لحملة تخوين مماثلة.
ويذكّر المتهم بتنفيذ اغتيال الهاشمي بالمحكوم عليه بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري والمتهم باغتيال جورج حاوي ومحاولة اغتيال الياس المر ومروان حماده، إذ إنّ سليم عيّاش كان من عداد "الدفاع المدني"، في حين أنّ أحمد الكناني من عداد الشرطة.
القاتلان اللذان يوصفان قانونياً بأنهما "مناصران" يعيشان، في ظلال مؤسسات تابعة للدولة.
وتتمايز الحكومة العراقية التي يترأسّها مصطفى الكاظمي، بفضل "الحراك الشعبي" الذي ينتفض على الفساد السياسي والاستتباع الايراني في آن، عن الحكومة اللبنانية، في أنّها هي التي كشفت القاتل وشركاءه واعتقلتهم وتجهّز محاكمتهم، في حين أنّ الحكومة اللبنانية، وقفت موقف المتفرّج الحيادي جداً، حيال اتهام وتجريم المحكمة الخاصة بلبنان سليم عيّاش.
ولكن هذا التمايز لا يلغي أنّ السلطات العراقية تعاطت بحذر كبير مع "انجازها الأمني"، بحيث غيّبت كليّاً كل حديث عن الجهة التي يرتبط بها قتلة الهاشمي، بحيث بدا وكأنّها قضية جنائية وليست عملية إرهابية.
وهنا تظهر "وحدة الحال" العراقية-اللبنانية ايضاً، فالحكومة العراقية تخشى على نفسها، كياناً وشخصيات، من "غضب" الجهات المتورّطة، إذ إنّ هذه الحكومة، تعيش، كلّما اتّخذت إجراء ضدّ هذه الجهات التي تبسط نفوذها بفضل ارتكاباتها، تحت خطر تعرّضها لهجوم دموي شبيه ب "غزوة 7 أيّار" التي قادها "حزب الله" ضد أركان الحكومة اللبنانية، في العام ٢٠٠٨.
وينقل ديفيد اغناثيوس، في نيويورك تايمز، عن الكاظمي تبريره لهذا النهج الحكومي، إذ يقول: "عندما وصلتُ الى رئاسة الحكومة، كانت أمامي ثلاثة خيارات: أولًا أن أشن حرباً مفتوحة ضد الميليشيات والفصائل. وثانيًا أن أستسلم للفصائل والميليشيات وأصبح رئيس وزراء تابعاً، وثالثًا أن أتبني استراتيجية تدريجية من الكر والفر، وهذا ما اخترته".
وتملك الحكومة العراقية الحالية هامشاً أوسع للتحرك من الحكومات اللبنانية التي تشكلت بعد ذاك السابع من أيار(مايو) ٢٠٠٨، على اعتبار أنّها تحاول ان ترضي شارعاً أرهقته التبعية لايران، وتسعى الى أن تحتلّ بغداد مكاناً محترماً في العالم العربي كما في المجتمع الدولي.
وخسرت الحكومة اللبنانية هذا الهامش، عندما سطا "حزب الله" على القرار وصانعيه، بالقوة حيناً وبالإغراء أحياناً.
وفشلت المكوّنات السياسية اللبنانية، بما فيها تلك التي تقدّم نفسها على أنّها "سيادية"، في افادة البلاد من الثورة الشعبية التي اندلعت في ١٧ تشرين الأول (اكتوبر)، لأنّها، وخوفاً على مكتسباتها السلطوية، انضوت، عملياً، تحت لواء "حزب الله" الذي قاد عملية افشال هذه الثورة، ميدانياً وسياسياً.
وما فعله "حزب الله" ضد "الثورة" اللبنانية، فعله "أشقاؤه" ضد "الثورة" العراقية، بدموية وصلت الى مستوى قتل أكثر من ٦٠٠ شخص، ناهيك عن اغتيال وخطف عشرات آخرين.
ولا يقتصر التشابه اللبناني-العراقي، بمناسبة اعتقال قتلة هشام الهاشمي، على ذلك، بل يتخطاه الى نقطة مذهلة: التضليل.
في مقاله الذي نشرته "النهار العربي"، في ١٧ تموز (يوليو) الجاري، كتب محمد سلطاني الآتي:
"بعد كل عملية اغتيال كانت تطال ناشطاً عراقياً مناهضاً للنفوذ الإيراني والميليشيات، كاغتيال الإعلامي أحمد عبدالصمد في البصرة، أو هشام الهاشمي في بغداد، أو إيهاب الوزني في كربلاء، كانت الجماعات الإلكترونية والإعلامية المرتبطة بإيران و"الحشد الشعبي"، تردّد عبر صفحات التواصل، وشاشات التلفاز، رواية مُنسّقة وموحّدة، تتهم فيها الولايات المتحدة أو اسرائيل أو الإمارات أو السعودية، أو النشطاء أنفسهم بتنفيذ عمليات الاغتيال، وتبرئ ساحة المجاميع المرتبطة بـ"الحشد الشعبي" وإيران من العمليات الدموية".
وتابع: "الحملات كانت تنطلق برِتم واحد، يبدأ باتهام النشطاء الشيعة بأنهم "شيعة السفارة الأميركية"، والسنّة بأنهم "إرهابيون"، والمسيحيين بأنهم عملاء للولايات المتحدة، ثم تنتهي إلى عمليات التصفية الجسدية، ليأتي دور الماكنة الإعلامية المرتبطة بإيران والحشد الشعبي، في إثارة الأسئلة ورمي الكرة بعيداً نحو الإمارات أو تل أبيب أو أي طرف يقرر صانع الخطاب الإعلامي الحشدي إقحامه كيفما اتفق".
هذه الملاحظات التي دوّنها سلطاني عن النسق التضليلي الذي تعتمده "بروباغندا" القتلة في العراق، لا تختلف أبداً عن الملاحظات التي سبق ان دوّنها الكتاب والصحافيون والمراقبون والمحققون عن النسق الذي يتّبعه القتلة في لبنان، بعد كل جريمة تحصل في البلاد.
وهذا يفيد بأنّ شهداء لبنان والعراق ينتمون الى خط تحرّري واحد، تماماً كما ينتمي خصومهم الى نهج قاتل واحد.
ويخشى من يعتمدون الجريمة نهجاً، على الرغم من قوّتهم العسكرية والأمنية والمالية والدعائية، من تأثير شخصيات لا تملك ما يحميها حتى من "لفحة هواء".
وهذه الخشية تعود الى أنّ الوجدان الوطني يتفاعل مع طروحات الشخصيات التي تتمّ تصفيتها، لأنّها توقظ حقيقة راقدة في النفوس.
ويرتكب جريمة وطنية لا تغتفر كلّ من يتهاون، مسؤولاً كان أو مواطناً، مع أيّ مسار اغتيالي، لأنّ من يذعن له اليوم سيكون ضحيته غداً، على اعتبار أنّ حَمَلة القضايا التغييرية، لا يلجأون الى التصفية، بل الى الاقناع، بكل الوسائل المشروعة المتاحة. وحدهم الذين يريدون رمي الأوطان في لجّة الجحيم يفعلون ذلك.
ومن يشكّك في أهمية مواجهة القتلة، ليس عليه سوى أن يدقّق في ما وصلت اليه أحوال لبنان التي بدأت تدحرجها، في تلك اللحظة التي تربّع فيها القاتل مرجعية سياسية ووطنية وعسكرية وأمنية وإعلامية واقتصادية ومالية.