أظن أننا، كعادتنا في استيعاب الأمور، وخصوصاً أمور ما بعد الصدمة، قد نحتاج إلى وقت لنعبر حالة الدهشة التي انتابتنا. وها هي صورتنا الآن في الواقع وعلى الميديا: بشر فاغرون أفواههم، مشدوهون مما حدث ويحدث، ومع إمعان في الصلف والكبرياء، يدفنون رؤوسهم في الرمال، ولا يزالون يرددون ويتحاورون في أمور عفا عليها الزمن واندثرت منذ قرون طويلة. فهذا هو الأسلوب الوحيد القادر على تخدير الضمائر وتجاوز هذه المحنة الكاشفة والمدمرة التي قصمت الظهور وأذلت الأنوف، ولكنه الصلف والكبرياء.
ولا بأس من فاصل قصير نخفف فيه، ولو قليلاً، من هول المأساة. سنحكي لكم هذه الطرفة الواقعية المبكية، ربما تكشف عما نحن بصدد الخوض فيه. ففي ختام العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وفي إحدى قرى دلتا النيل في مصر، كانت الحرائق تشتعل في بيوت القرية دون سبب واضح؛ هكذا قيل. وهبت الجهات المسؤولة للبحث وتقديم العون للمتضررين، ومن ثم دفعت الدولة مفارز من شيوخ الأزهر والأوقاف وعلى رأسهم محافظ الإقليم لصد هجوم الجن والعفاريت التي تحرق بيوت الناس. وصدحت أصوات ميكروفونات مساجد القرية على مدار الساعة بالأدعية والأذكار لطرد جحافل الجن التي غزت القرية دون سابق إنذار وأشعلت النار في بيوتها. ولم تفكر الجهات المسؤولة في إرسال عالم أو باحث متخصص في الكيمياء أو الفيزياء للبحث عن سبب علمي للاشتعال الذاتي للنيران في بيوت هؤلاء الفلاحين البسطاء. نعود إلى متن الطرح حتى لا نفقد أحداثيات اتجاهه، مع وعد باستكمال بقية أحداث الطرفة في الختام.
إقرأ أيضاً: وهم القداسة
يعلم متابعونا الأعزاء أنني دائماً ما أتجنب الكتابة عن أحداث جارية لأسباب عدة، لكن في هذه الأحداث لا يمكن الانتظار، فالحدث مؤلم والمصاب جلل. حيث ضربات إسرائيل الموجعة المستمرة منذ عام لم تكن كسابقاتها. كانت مختلفة كل الاختلاف، كانت انفجاراً، بل فجوراً تقنياً صنع نقلة هائلة، لا شك ستكون علامة فارقة في مراحل تطور هذا النمط من الحروب. وما بين دك وتدمير قطاع بأكمله على رؤوس أصحابه ودفنهم فيه، وبين اصطياد أهدافهم غيلة في غرف نومهم وسياراتهم، وبين تفجير خمسمئة وسائل الاتصال عن بعد بحامليها، وكثير كثير مما نعرفه ولا نعرفه أو نتجنب الحديث عنه لأنه يذكرنا بأحوالنا المهينة وتخلفنا الفاضح، ويذكرنا أيضاً برقم القرن الذي نعيش فيه.
إقرأ أيضاً: الكراهية النائمة والسلام الهش
وهنا نأخذ فاصل قصيراً لنكمل فصول الطرفة الميلودرامية التي استهللنا بها هذا الطرح، حيث لم تفلح الأدعية والأذكار والرقية الشرعية في منع النيران من الاشتعال في منازل القرية. ولا يزال الناس يصرفون مخلفاتهم الصلبة والسائلة تحت أسرتهم، ولا تزال مخلفات بهائمهم ودوابهم وطيورهم مكدسة في أحواش بيوتهم، ولا يزال غاز الميثان يتصاعد ويشتعل ذاتياً، ولا يزال الناس يتهمون الجن والعفاريت، ولا يزال مستنقع التخلف يتسع كل يوم. ولا تزال إسرائيل ترسل كل يوم مئات الجثث ولائم لديدان الأرض. ومن ينكر أننا نعيش نكسة جديدة فهو كاذب، نكسة انتصر فيها العلم والبحث والتقنية وانهزم فيها التخلف والتواكل والغيبيات.