مع اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش في يوليو 1999، أصبحت قضايا حقوق الإنسان إحدى أبرز سمات سياسة الدولة التي مكنت من اقتحام عدة أوراش ومعالجة الاختلالات البارزة التي تعاني منها، كان أبرزها ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي عاشتها المملكة منذ الاستقلال.
صحيح أن مجموعة من الإجراءات قد اتخذت خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي منها إطلاق سراح مئات المعتقلين السياسيين والمختفين، وبداية عودة المنفيين ،وتعديل الدستور الذي أصبح ينص على التزامات المغرب بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها كونيا ومراجعة قوانين وإحداث مؤسسة وطنية لحقوق الإنسان. إلا أن مقاربة العهد الجديد كانت أكثر شمولية وجرأة تعكس إرادة سياسية قوية في هذا المجال.
لقد كان أول قرار اتخذه الملك الجديد في أغسطس 1999 هو إحداث هيئة التحكيم المكلفة تعويض ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي وضعت القواعد الأساسية الأولية للتجربة القادمة مع هيئة الإنصاف والمصالحة، فضلا عن تعويض حوالي سبعة آلاف شخص من الضحايا الذين تقدموا بملفاتهم أمامها بمقدار إجمالي يقارب المائة مليون دولار، فضلا بطبيعة الحال عن الإقرار بمسؤولية أجهزة الدولة عن هذه الانتهاكات.
ومع اتساع فضاءات حرية التعبير، تنامت دينامية النشر المرتبط بأدب السجون والاختفاء من خلال إصدار عشرات الكتب والشهادات، وتنظيم مسيرات إلى أماكن الاعتقال القسري كما تنامت دينامية حركة حقوق الإنسان مطالبة بتوسيع المقاربة المعتمدة لتشمل أبواب أخرى ضمن العدالة الانتقالية كمعرفة مصير المختفين الموتى، وحقيقة ما جرى، واتخاذ الإجراءات اللازمة لعدم تكرار الانتهاكات فضلا عن جبر الضرر باعتباره حقا كرسه القانون الدولي لحقوق الإنسان. وقد عبر جلالة الملك عن انشغاله وتفاعله مع هذا التوجه في عدة خطب منها بالخصوص الرسالة الملكية الموجهة إلى المؤتمر 34 للفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان الذي انعقد في مارس 2003 بالدار البيضاء، والتي أكد فيها الملك محمد السادس على أن "هدفنا كان وما زال هو توفير الشروط الضرورية لتأمين المستقبل عبر جبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا وإعادة التأهيل وإرساء الضمانات الكفيلة بالوقاية والحماية من عدم تكرار الماضي"؛ وبذلك رسمت الرسالة وخارطة الطريق أفقا جديدا لمسار العدالة الانتقالية في التجربة المغربية سيمثله القرار الملكي القاضي بإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة الذي أعلن عنه في نوفمبر 2003 وجرى تنصيب أعضائها في يناير 2004.
وإذا كانت الإجراءات المتخذة في مجال حقوق الإنسان خلال التسعينيات ذات علاقة بالحوار بين الملك الراحل الحسن الثاني والمعارضة السياسية مما مهد الطريق لحكومة عبد الرحمن اليوسفي، فإن الدينامية الحقوقية خلال عهد الملك محمد السادس جاءت معبرة عن إرادة سياسية صريحة وتفاعلها مع الديناميات المدنية في مجالات متعددة، وهذا ما جعل نفس الفترة تقريبا تعرف حركية مجتمعية تهم العدالة الانتقالية إلى جانب ديناميات أخرى تهم حقوق النساء وتعديل مدونة الأسرة والحقوق الثقافية واللغوية الأمازيغية فضلا عن إطلاق برنامج التنمية البشرية الهادف إلى تعزيز عدالة مجالية.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن ورش العدالة الانتقالية عكس أيضا واقعية حركة حقوق الإنسان التي اعتمدت أرضية مشتركة أبعدت القضايا الخلافية التي من شأنها إعاقة انطلاقه تاركة التعامل معها للأفراد المعنيين وأسرهم.
وقد تدعم كل ذلك بإعداد تقرير موازي لتقرير هيئة الإنصاف والمصالحة، هو تقرير الخمسينية الهادف إلى تقييم منظومة الحكامة في مختلف المجالات والتفكير في أفق جديد للإصلاح والتنمية ودولة القانون، وهو التقرير الذي قدم في نفس اليوم مع تقرير الإنصاف والمصالحة إلى الملك محمد السادس بالقصر الملكي بالرباط.
ونحن على بعد 20 سنة على تجربة العدالة الانتقالية بالمغرب، فإنه يحق التساؤل عن خاصيات هذه التجربة وآثارها على التطور اللاحق في البناء المؤسساتي والتشريعي والسياسات العمومية.
أم أحد ضحايا حقوق الانسان تعانق الملك محمد السادس خلال احتفالية تقديم تقريري هيئة الإنصاف والمصالحة وتقرير الخمسينية بالقصر الملكي في ديسمبر 2005
إن أبرز خاصيات التجربة المغربية في هذا الباب تتمثل في الآتي:
- إنها التجربة الوحيدة دوليا التي تمت في إطار استمرارية نفس النظام السياسي (الملكية) مع تغيير جوهري في سياسته؛
- إنها تجربة انبنت على التراكم من خلال مسار زمني متواصل؛
- إنها اتسمت بجرأة سياسية كبيرة سمحت بتقييم وتحديدمسؤوليات مؤسسات الدولة في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال أطول فترة زمنية (43 سنة) عرفتها تجارب العدالة الانتقالية في العالم؛
- إنها التجربة التي خصصت أكبر قدر من التعويض لجبر الضرر الفردي في التجارب المقاربة (ما يقارب مائتي مليون دولار). وعلى سبيل المقارنة، فإن لجنة الحقيقة والمصالحة بجنوب افريقيا قد أوصت بتعويض إجمالي قدره 84 مليون دولار لجميع ضحايا الانتهاكات الجسيمة لنظام الميز العنصري، إلا أن الحكومة في عهد الرئيس ثابو مبيكي قلصتها إلى 3900 دولار كتعويض اجمالي لكل ضحية حددتها لجنة الحقيقة.
- إنه لأول مرة نتحدث عن أناس اختفوا لمدة عشرين سنة وعادوا إلى الحياة (حوالي 300 شخص)، وهم بذلك ذاكرة للاختفاء القسري دوليا نظرا لكون المختفون في جميع التجارب الأخرى لم يبق منهم أحد على قيد الحياة.
ولا شك انها تجربة بقيت حاضرة بتوصياتها خلال كامل الفترة الفاصلة عن تقديم تقريرها خاصة أثناء تعديل دستور 2011 الذي خصص بابا كاملا (حوالي ثلث الدستور) لتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وما زالت حاضرة إلى الآن مع إصلاح باقي التشريعات المطروحة حاليا (القانون الجنائي، قانون المسطرة الجنائية، مدونة الأسرة...).
ونعتقد أن مسار المقاربة المغربية لمعالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة ما زالت في حاجة إلى قراءات وتقييمات بما يسمح استخلاص دروسها بما يفيد في تعزيز بناء دولة القانون وحماية كرامة الإنسان وحقوقه. كما ان الاحتفاء بهذه المناسبة هو أيضا لحظة لإحياء الذاكرة – خاصة بالنسبة للشباب ولكن أيضا أولئك الذين غطى النسيان ذاكرتهم ! للوقوف على تاريخ وتكلفة البناء الديمقراطي وحقوق الإنسان في المغرب وللعمل على تحصين المكتسب وفتح أفق جديد لمواجهة التحديات الراهنة.
*الحبيب بلكوش: خبير في مجال حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية، رئيس مركز دراسات حقوق الإنسان والديمقراطية