تتميز اللغة السنسكريتية بتاريخ غني يمتد لآلاف السنين، وتعتبر حجر الزاوية في الثقافة والفلسفة والأدب الهندي، وهي واحدة من أقدم اللغات في العالم، لا تزال حية، بل تشكل الأساس للعديد من لغات جنوب آسيا، وتأثّرت وأثّرت من وفي العديد من اللغات الأخرى، وتنتمي لعائلة اللغات الهندية الأوروبية (اليونانية القديمة واللاتينية والفارسية). ووُضعت قواعدها قبل أكثر من 2500 سنة، وأصبحت مع الوقت الوسيلة الأساسية للتعبير عن المدارس الفلسفية الهندية، وانتشرت للغات جنوب شرق آسيا، كما تأثرت بها الصينية، لكن ظهور اللغات العامية، تاليا، مثل الهندية والبنغالية والتاميلية أدى إلى انخفاض الاستخدام اليومي للسنسكريتية. كما كان للاستعمارين العربي البريطاني للهند تأثير كبير في التقليل من أهميتها، لذا بدأت الجهود لإحيائها خلال القرن الـ 19، لتصبح إحدى اللغات الـ 22 المعترف بها رسميًا في الدستور، لكنها تبقى لغة غير دارجة.
كل هذا وغيره لفت نظر الناشر، عبداللطيف النصف، قبل سنوات، فطلب من أستاذ اللغة الإنكليزية عبدالله بارون مساعدته، فقام الأخير بترجمة كتاب «ملحمة رامايانا» Ramayana، عن الإنكليزية. واستغرقت الترجمة 20 عاما، تخللها بحث وتحقيق، ومراجعة من الناشر عبداللطيف النصف من الناحيتين الأدبية واللغوية ونشره بشكل فاخر، علما بأن دار نشر «بنغوين»، الإنكليزية العريقة، هي التي أن ترجمت النص نقلا عن السنسكريتية.
تنسب الرامايانا للحكيم الهندي فالميكي، الذي كتبها باللغة السنسكريتية، ويُعتقد أنها كُتبت بين القرنين السابع والرابع قبل الميلاد، واستمرت الإضافات لما بعد ذلك. وكغيرها من الملاحم فقد خضعت لمئات التعديلات والإضافات والتكيفات، على مر القرون.
تعتبر الملاحم نصوصا أدبية وشعرية وفلسفية تتناول أحداثا بطولية ومغامرات، وتروي قصة شعب أو أبطال خارقين ضد قوى شريرة أو تحديات كبيرة. كما تعتبر الملحمة من أقدم أشكال الأدب، حيث كانت وسيلة لنقل التاريخ والثقافة والقيم من جيل إلى آخر، خاصة قبل ظهور الكتابة، وبها مزج بين الواقع والخيال، والبلاغة والرمزية، من واقع نصوص منقولة شفهيًا، ومن أشهر الملاحم «الإلياذة والأوديسة» لهوميروس، والشاهنامة الفارسية، لفردوسي، وجلجامش الأكدية، وهي الأقدم في التاريخ، وبقي أبطالها وكل ما ورد فيها من حقائق وخيال جزءا خالدا من وجدان الحضارات، وهذا ما نجحت فيه ملحمة رامايانا، من خلال 24000 بيت مقسمة إلى 7 كتب داخل كتاب واحد أو كاندا، تبدأ بولادة بطل الملحمة «راما»، وحياته ونفيه وانفصاله عن العرش، ومغامراته في الغابة، ولقائه مع هانومان وسوجريفا، والبحث عن سيتا، ورحلة هانومان البطولية إلى لانكا والعثور على سيتا، وأخيرا كتاب الحرب، الذي يروي المعركة الكبرى بين راما ورافانا، وكتاب ما بعد المعركة، الذي يصف السنوات الأخيرة من حكم راما ومن ثم رحيله عن العالم.
لا تعد ملحمة رامايانا مجرد قصة، بل هي أيضًا دليل أخلاقي، يؤكد على أمور عدة مثل الواجب والصلاح، والالتزام الثابت بالمسؤولية، والإخلاص والولاء، والتضحية والشرف، إضافة لأهميتها الثقافية والدينية الهندوسية، وتعتبر نصا مقدسا يوضح حياة وفضائل الإنسان المثالي، أي «راما»، ويتم الاحتفال بأحداث رامايانا في مهرجانات مثل ديوالي ودوسيهرا.
تحتوي الملحمة على حبكات قصصية مثيرة تجعلها جديرة بالقراءة، وسبقت عصرها في توقع الكثير من الأمور والاختراعات الحديثة، مثل الليزر والرادار وأطفال الأنابيب وغيرها من أمور كنا نحسب أنها حديثة، وبالتالي لا تعد الملاحم الهندية، ومن ضمنها رامايانا، مجرد قصص بطولة وإخلاص، بل كانت أيضًا استكشافا عميقا للقيم الإنسانية والتدخل الرباني.
شكرا للمبدعين عبداللطيف النصف وعبدالله بارون على جهودهما في ترجمة هذا الأثر العظيم.
أحمد الصراف