احتبس عنى قلمي حينًا من الدهر، وفَتَرَ عني فترة من الزمان، فأمسك عني رفده وأمداده، وحرمني جده وهزله، ومنعني حُسن فكرته، وبُعد رَوِيَّته، فلما تمادت غيبته، وأشفقت أن طول الغيبة ربما أفضى إلى إيلاف الهجر ثم افتراق الصحبة، فقد أردت يومًا أن أستنطقه، بل الحق أني أردت استكتابه، بل أحق الحق أني أردت استكراهه على الكتابة، فجعلت أُطيل الجلوس إليه، وجعلت أعرض عليه الأمر بعد الأمر، واُقلَّب له الوجوه، وجعلت ألقي إليه بطرف القول أفاتحه في بعض الشأن لعله أن يكون له فيه مقالة أو بعض مقالة، أو لعلي أن أصيب منه رأيًا أو بعض رأي، فلا يحير ولا يجيب! وجعلت أخرج ألتمس به المتنزهات والخلوات، وكانت من قبل تجري مداده، وتسوق إليه الخواطر، وتفتح له فنون القول، فلا أجده يتحرك إلى شيء، ولا يتوجه إليه شيء!
فلما أثقلت عليه، وأحس مني استكراهًا للقول، وانتزاعًا للكلام، تحدث إلىَّ بعد طول إعراض، فقال:
يا صاحبي، أبَعْدَ طول العشرة، وقديم الصحبة، ولم تعلم بَعْدُ أننا معاشر الأقلام لا نُستكره على الكتابة استكراهًا، ولا يُنتزع منا القول انتزاعًا؟! وإن أنا أجبتك إلى القول استكراهًا حصلت مني على اللغو الفارغ من الفكرة، ووقعت على الكلام المسيخ العُطْل من البلاغة، فخذ ما آتيناك من القول عن عفو وطبع، ولا تستجلبه منا استجلابًا؛ لئلا يكون كلامنا عليك لا لك.
إقرأ أيضاً: يمام رمسيس
ولتعلم أنَّنا نحن الأقلام مرآة عقول البشر، يجري علينا ما يجري عليهم، فربما حين تريد مني القول ليس عندي ما أقوله، وربما هو شأن لم يتوجه لي فيه رأي، وليس كل الشأن يكون للمرء فيه رأي، ولعل لي فيه رأيًا لم يحن حينه، أو لعلي أرجئ الرأي حتى أقف على تأويله وتفصيله، ولعل عندي الرأي والقول وليست تواتينى مَلَكَة الكتابة.
فالكتابة الأدبية التي تريدني عليها ليست هي الثرثرة في المقاهي مع الأصحاب، ولا هى بمهلهلات القول التى تُلقى على صفحات الجرائد قديمًا، وصفحات المواقع جديدًا، يلقيها من لا يُحسن رأيًا، ولا يجيد قولًا، بل يحشون حشوًا تنشأ له الأبواب، وتستطال به الأعمدة، وتسد به الخلال؛ لتُستجلب به أموال الإعلانات، وما هو من الرأي ولا الأدب فى شيء!
إقرأ أيضاً: الشعاثة والشُّعثاء
إنَّ الكتابة (فيما يزعم قلمي) ينبغي لها أن تكون أدبًا بليغًا يفيد القارئ بمعناه، ويلذه بجمال نظمه، وحُسن تأليفه، ولا ينبغي لها أن تكون غير ذلك، فإن عدمت المقالة الرأي والفكرة، وخاض صاحبها في بعض خفيف القول من المزح، والدعابة، والطرف، فلا ينبغي لمقالته أن تعدم طلاوة البلاغة، وجودة التأليف، ومونق الألفاظ، وحُسن تخير الكلمات، وحسن إنزالها بمواقعها الأوفق للمعنى المراد، فإن ذلك مما يستشيلها عن منزلة الهزل، ويرفعها إلى درجة الأدب المقروء، الذى إن لم يُفَد عقل قارئه فكرة ومعرفة، أصاب منه قلبه تلذذًا بحُسن بلاغته وبهاء منطقه.
فإن تأبت عليك (سيدي الكاتب) الفكرة، وامتنعت منك المَلَكَة، فارضَ من قلمك بالسكوت فإنه لك وله أسلم وأغنم.