: آخر تحديث

وهم التکامل

61
56
55
مواضيع ذات صلة

في أواسط السبعينيات، في مدينة السليمانية، وفي بداية كتابتي للنقد المسرحي، وحينها كنت شابا مندفعا يحمل جعبة كبيرة تتسع لكل أحلام وأماني الدنيا برمتها، وأثناء ذهابي لمشاهدة مسرحية "الثعلب والعنب"، التي كانت تشارك فيها المخرجة المسرحية الكردية "بديعة دارتاش"، هالني أن أرى إن هذه المخرجة القديرة التي كنت قد حظيت بشرف المشاركة في أوبريت "نهاية الطاغية" من إخراجها وهي لا تتمكن من حيث تقمصها  لدور "كلايا" من مجاراة "ميليتا" خادمتها، وصدمني الامر الى الحد الذي وجدت نفسي فيه مندفعا لكتابة نقد للمسرحية المذكورة ذكرت فيها فيما ذكرت بأن ممثلة دور ميليتا قد تفوقت على بديعة دارتاش من حيث أدائها لدورها، ونشرت المقالة بإسم وهمي في جريدة "طريق الشعب" التي كان الحزب الشيوعي يصدرها في بغداد، وكان مراسل هذه الجريدة وكذلك صحيفة "الفكر الجديد" في السليمانية، طيب الذكر الاستاذ "أحمد رجب" الذي فاجأني ذات يوم بعد نشر النقد بأن نبهني بأن المخرجة بديعة دارتاش سألته بإلحاح عن كاتب تلك المقالة!

أتذكر لحد الان حالة الزهو والخيلاء التي إنتابتني وجعلتني أشعر بأنني لست مجرد وهم "كما كنا نصف أنا وأصدقائي من المولعين بالولوج في عالم الادب والثقافة" بل إنني صرت رقما! وذلك ما شجعني لكي أكتب المزيد وأنشر في صحف أخرى ولاسيما بعد أن إنقلب حزب البعث على الحزب الشيوعي وإختفت صحافة الحزب التي كانت متميزة بعمقها الفكري والثقافي من الاسواق.

كنت أكتب في صحيفة "الراصد" الاسبوعية وفي صحيفة "العراق" ومجلات وصحف وأخرى، وكان تركيزي على النقد والترجمة، يومها ولاسيما عندما كنت أذهب في بعض الاحيان الى مقهى "مام علي" الذي يقابل سينما سيروان في السليمانية حيث كان يلتقي فيه الرعيل والصف الاول من الكتاب والادباء، وكنت أراقب كلامهم وحركاتهم وتعابير وجوههم، ولا أدري لماذا لكنني شعرت حينها بأنهم يجبرون أنفسهم لكي يظهرون في مظهر المتمكن، ولاسيما الشعراء منهم! والذي جعلني أعيش هكذا شعور هو إنني في يومها قد تأثرت كثيرا بما جاء في احدى روايات ديستوفسكي حيث يذكر على لسان أحد أبطاله ما معناه "ثلاثون عاما وأنا لاأعرف لماذا ولمن أكتب"، في ذلك الوقت صارحت صديقي الناقد "أميد آشنا" بذلك، فضحك وقال: من يدري قد تكون صادقا في شعورك هذا!

الكثير من المٶلفات والكتب التي تسنى لي قرائتها كنت دائما أتساءل مع نفسي الى أي حد كان هذا الكاتب أو ذاك الروائي أو الشاعر صادقا وصميميا فيما سطره؟ وهل إن الكتابة هي إنعكاس واقعي وصادق لما يختلج في أغوار الكاتب أم أنه يتصنعها ويمارس البعض أو الكثير من التمويه والكذب من أجل إيصال ثمة فكرة أو وجهة نظر الى القارئ؟

يومها، وأثناء قيامي بترجمة قصيدة للشاعر "حسين صابر" والذي صار يدعى اليوم "حسين بفرين"، فقد فاجأني بهجومه اللاذع على المتواجدين في مقهى "مام علي" من الرعيل الاول للكتاب والادباء وعلى الرغم من إنه كان يعتبر من ضمن الرعيل الاول لكنه مع ذلك كان يلتقي في مقهى "قلعة دزة" المقابل للواجهة الاخرى لسينما سيروان والتي كان يلتقي فيها الرعيل الثاني الذي كنت أنا واحدا من ضمنهم، وأتذكر جيدا بأنه قال لي بأن كلهم يتصنعون ويسعون من أجل إظهار أنفسهم وكأنهم بلغوا مرحلة الكمال!

المشكلة إنني وفي ذلك الوقت لم أكن أعيش حالة الصراع والتنازع فيما يخص هٶلاء الكتاب والادباء فقط بل لكل من كنت أقرأ له! وكان لي صديق هو طالب أردني في جامعة السليمانية وكان اسمه "ريم"، وكان يساريا مندفعا ومثقفا لا يمكن الاستهانة به مع ملاحظة إنه كان يمزج أفكاره اليسارية بسياق وجودي، وقال لي بأن ما أعيشه هو وهم في عالم كله أوهام وإن الانسان يسعى للفرار من الفرار الى فرار آخر!

أعواما طويلة من عمري أمضيتها عبثا ومن دون طائل وأنا أجري وراء مسألة الكمال أو التكامل، والتي سعت الاديان والفلسلفة بطرق وأساليب مختلفة لطرحها وعكسها للإنسان كمسارات من أجل بلوغه وجعله يمشي في هذه المسارات، والانسان أساسا كائن محصور بين ثلاثة أبعاد أساسية؛ البعد العضوي (أي الاكل والشرب)، البعد الغرائزي (الجنس وحب الذات والغيرة والمنافسة..الخ) والبعد العقلي، إضافة الى أنه محدد بعاملي الزمان والمكان، والانسان في ضوء كل ذلك ولاسيما البعد الغرائزي والعامل الزمني، يجد الوصول الى الكمال أو التكامل مهمة تقترب من الاستحالة، إذ أن الفلسفة وقبلها الدين، يشترطان على الانسان من أجل بلوغ مرحلة الكمال أن يقوم الانسان بالعزوف عن الكثير من المسائل والامور وأن يضع أمامه قائمة طويلة من المحظورات وبذلك فإن بلوغ هذه المرحلة تستوجب أن نتخلى أو نحارب ونقاوم ما قد جبلنا عليه في خلقنا ووجودنا، وذلك لكي نتمكن من الوصول الى قدراتنا الخفية "كما يقول ألكسيس كاريل" فنتمكن من المشي على الماء والطيران والقدرة على ممارسة الإشراق، بل وحتى تجاوز عاملي الزمان والمكان.

هل هناك كاتب أو شاعر أو فيلسوف أو عالم دين قد بلغ مرحة الكمال؟ شخصيا لا أعتقد ذلك، وحتى أرى إنه وفي أغلب الاحيان يكون هناك ثمة تهويل إذ كما يجري تأليه القادة والزعماء ويجعلونهم يشعرون بالغرور وجنون العظمة بحيث يخرجون عن طورهم الانساني، فإن شئ من ذلك يجري مع المفكرين والفلاسفة وعلماء الاديان.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.