ومن الحب ما قتل.. الاستثناء وليس القاعدة في عالم الحب، فالحب عنى ويعني بالضرورة إحياء الروح الانسانية وجعلها تنطلق من عالم الروتين والجمود الى فضاءات لاحدود ولانهايات لها، الى عوالم يجد الانسان نفسه فيها شعاعا محلقا في الآفاق ولا يمكن أن يحده ويوقفه شئ سوى ما قد عشقه وإفتتن به.
عندما تمنى شاعر إيران الكبير نيما يوشيج بأن تنساب الميكروبات المستقرة في صدر حبيبته المريضة "عالية"، الى داخل جسده، فإنه لم يكن يرى في تلك الميكروبات ما يجب تجنبها والحذر منها، بل إنه كان يرى فيها أحياء وردية جميلة لأنها كانت تتواجد في داخل جسد حبيبته، وهذا هو أفضل وأجمل تفسير لما يقال بأن الانسان عندما يحب فإنه يحب الدنيا بما فيها ويرى كل شئ جميلا حتى وإن كان قبيحا!
الحب، ينشأ ويترعرع عليه الانسان منذ أيامه الاولى للولادة، منذ أن يشم الرائحة الزكية لأمه، هذا الرائحة التي تخلق أقوى علاقة عاطفية من نوعها حتى إنها أقوى من كل العلاقات المذكورة في قصص الحب الاسطورية، وبنفس السياق نجد الوشائج العاطفية التي تربط كل أفراد العائلة ببعضها وتوفر لها أجواءا عبقة يتنسمون فيها أريجا لن ينسونه حتى اللحظات الاخيرة من حياتهم.
الحب، هو سر الوجود، هو الشعاع الاقوى من شعاع الشمس والذي وهبه الله للإنسان وجعله بسبب ودافع منها أن يمضي في الحياة متفائلا يمتلك نواصي العزم والاقدام والمضي للأمام دونما أي تردد أو وجل. هذا الحب، هذا الدفق الالهي، هذا الاحساس الذي يعيد في كثير من الاحيان خلق البنية المعنوية للإنسان من جديد بأقوى من السابق، هذا الحب، يواجه خريفا إنسانيا مصطنعا يشير الى نهايته!
عندما ألف المفكر الامريكي "فرنسيس فوكوياما" كتاب (نهاية التأريخ) والذي تحدث فيه عن حرب الحضارات ونهاية الانسان من جراء ذلك، لكنه عاد مرة أخرى ليٶلف كتاب "نهاية الانسان"، والذي قال فيه بأن الانسان سيقضي على نفسه وينهي وجوده الانساني، أما كيف، فإن فوكوياما تحدث بإسهاب عن التقدم العلمي وإنعكاساته على الانسان وخصوصا في مجال هندسة الجينات وإمكانية إيجاد أجيال من البشر خالية من العواطف والاحساسيس وتمتلك القوة العقلية فقط، هذا الانسان الذي يسير كالآلة تماما وحتى لا يختلف عنها سينهي في النتيجة الانسان المألوف المتكون من عواطف وأحاسيس وقوة عقلية، هو واحد من الصور القاتمة لمستقبل البشرية الذي سيتم فيها إطلاق رصاصة الرحمة على الحب والعواطف الانسانية برمتها.
بيد إننا يجب أن نعلم بأن نبٶة فوكوياما بما تستند عليه من مقومات وركائز قوية لا يمكن نكرانها، ليست لوحدها من يهدد الحب ويبشر بنهايته، بل إن كل ما نعيشه اليوم على كوكبنا الارضي المريض والموبوء يوحي بذلك.
عامل السرعة والسباق مع الزمن الذي يخيم بظلاله بقوة على الانسان كفرد وعلى المجتمعات صار يفرض وضعا ميكانيكيا صعبا معقدا على الانسان بحيث لا يجد هناك من متسع من اجل اظهار وابراز العواطف ولذلك فان الناس يبدون وهم يمشون في الطرقات والشوارع او وهم جالسين في اماكن العمل وداخل وسائل المواصلات وكانهم روبوتات مبرمجة وليس كائنات حية مفعمة بالعواطف والاحاسيس.
الحياة تجري بسرعة أكبر مما يمكن أن نتصوره على سطح الكوكب الارضي، وعندما نقوم بمقارنة بين القرون والعصور الانسانية فإننا نجد أنفسنا أمام حقيقة صادمة، وهي إن البشرية تتجه نحو مستقبل مجهول!
الادهى والامر في ذلك، إن ما يجري ليس كما كان في الفترات التي سبقت الحربين الكونيتين، وهنا لا أتحدث عن إحتمال حرب كونية ثالثة مع إن أسبابها وعواملها متوفرة ومهيأة على أفضل ما يرام، بل إنني أتحدث عن المجتمعات البشرية بصورة عامة عن الشعوب عن الامم، كلها في حالات من التسابق التدافع والتنافس بإتجاه بوتقة الفناء!
هذا التدافع والتسابق، يتلاشى في خضمه رويدا رويدا الحب بأسمى صوره، وأنظروا، الى الحالة البلهاء للإبداع الانساني في المجالات الروحية من أدب وفن والثقافة بشكل عام، كيف إن النتاجات كلها تتسم بطابع من الجفاف والنضب وأن نبع الحب والعاطفة الانسانية قد بات في طريقه للنضوب بل وحتى إن الحب والعواطف في هذه النتاجات تشبه الورود البلاستيكية التي لا رائحة فيها.
الحب الذي هو أهم أساس معنوي لتكوين الشخصية الانسانية ببعديها الفردي والاجتماعي، مثلما هو الركيزة المعنوية في تكوين العوائل وحتى في العلاقات بين الامم والشعوب، لم يعد كما كان بل هو أشبه ما يكون بالشمس المائلة للأفول وإن ما تبقى من شعاع منه لم يعد يكفي الـ 8 مليارات إنسان، ونظرة واحدة الى ما يجري حاليا في العالم من إنقسام وتشرذم وتصدام وإختلاف وتفاقم للكراهية، يجعلنا ليس نزداد تشاٶما بل وحتى نٶمن بالتشاٶم، والإيمان بالتشاٶم يعني بحد ذاته نهاية كل شئ جميل في الحياة.
ليست الحروب والمواجهات من ينهي الحياة والوجود على الارض ولا حتى التقدم التكنولوجي والانسان الآلي، بل إن تلاشي الحب والعواطف الانسانية ونهايتها هو من ينهي الحياة!