لم أكن أرغب في إثارة موضوع الثقافة الجنسية؛ نظرًا لتبلُّد العقول. غير أن الكم الهائل من المصائب وما تبعثه من أهوال، وما نراه ونسمعه من بلايا القصص السرية التي تتسرب عبر قنوات الحياة، تلك التي تُحيل سعادة البشر إلى جحيمٍ لا يُطاق، حيث التلاعب بالعواطف وبالعقول وتدميرها، واختلالاً في السلوك، خاصة عندما يكون الجسد الأنثوي الغامض حاضرًا في التفسيرات، وفي اكتشاف أسرار المكوِّنات الجنسية والعضوية.
دعونا نتفق على أن هناك سوء فهم في التفسيرات الدينية، واختلافًا في العقائد والأفكار، وثقافات مختلفة، ورؤى متناقضة؛ لكن الشيء الثابت: أن الدين هو الحاكم لأفعالنا وتصرفاتنا وتفسيراتنا. وكثيراً ما يتم اختزالُ الأفكار بطريقة انتقائية، لأهدافٍ؛ بعضها يسكن في الضمير، وبعضها الآخر غرضه التسويق لتحقيق مصالح رجال الدين.
هناك أيضًا، التنشئة الاجتماعية، التي تقوم على الاستبداد والقهر والحرام والممنوعات الكثيرة؛ حيث لا يُوجد تواصُل أسريٌّ وتربويّ يُرافق الطفل حتى مرحلة المراهقة وما بعدها؛ ما يؤدي إلى نتاجٍ غير سويٍّ في السلوك والتصرفات والممارسة، حيث الزنا والاغتصاب والتحرُّش والانحراف الأخلاقي والفواحش والبغاء، والجنس السطحي عبر الإنترنت، وعادات المشاهدة الخاطئة للمواقع الإباحية. فيصبح الجنس تابو محرمًا ممنوعًا من الخوض فيه داخل العائلة، لكنه متاحٌ في الجلسات السرية، وبحرية كبيرة.
وإذا ما نزعنا القناع عن مجتمعاتنا؛ فإن العُقد والرغبات المضطربة والمُحبِطة تظهر جَليَّة، كذلك يظهر الكبت الجنسي والأنانية والنفاق والقهر والحب الخائب. وكل إنسان في نهاية المطاف إنما هو ابنُ بيئته، ولن تخمد نار هذه الظواهر المتأججة إلا بإطفائها بظواهر إيجابية مضادة لها؛ حتى نخرج من هذا المأزق الكبير.
ولقد أسقط الإعلام الرقمي كل جدران الثقافة المنعزلة، وأمراض الكبت الغريزي، عندما فتح فضاءه للجميع، مستخدمًا الجسد الأنثوي كمثير غريزي للكسب السريع والربح الوفير، مما سرّع من حضور الهواجس الجنسية لدي الجيل الجديد أكثر من الأجيال السابقة التي كانت مشغولة بالحب العذري!
صارت المواقع الاجتماعية تتبارى في تقديم المعارف الجنسية بالصورة والصوت، بعضها يُشوِّه صورة الجنس بالأوهام الخادعة، وبتكنولوجيا التضليل والتضخيم، والآخر يُقدِّم معلوماتٍ فيها رزانة الثقافة والمحتوى. وفي كلا الحالتيْن يبقى هو اللغز السرِّي الذي لا يُباحُ البوح بتفاصيله، أو الاقتراب من مناقشته.
حاولتُ أن أستقصي ما يجوز، وما لا يجوز، في الشرع والفقه؛ فوجدت ألغازًا مستترة، وخجلًا في ذِكْر (الجنس)، وفقرًا في المعلومات عما يحدث من عمليات بيولوجية أو عاطفية، وسلوكيات في الهمس واللمس، وأسرار المتعة والانسجام، والشهوة وهِزَّة الجماع. واكتشفتُ في ثنايا كتب التراث أن النفزاوي والسيوطي وابن داود والشاطبي والغزالي، كانوا أكثر جَرأةً منا فيما نحن عليه اليوم في تناول الجنس.
لم تمنع الأديان المعرفة الجنسية، وامتلاكَ التوعية والتثقيف؛ لبلوغ التوازن النفسي والاجتماعي والصحة النفسية السليمة، ولكن بشرط "أن تكون وقائية وقائمة على الشرعية المسبقة، وقادرة على إعلاء الدوافع الجنسية"، وهي تعني تهذيب غرائز الإنسان الجنسية والمتعلقة بالشهوة والغرائز الطبيعية الفطرية؛ حتى تسير في مسارها المعتدل، بلا إفراط أو تفريط.
ومثلما كان تابوهات الجنس تُغلق أبواب المعرفة أمام الجيل القديم لمعرفة الأسرار والخفايا، ويقوم بإرهابه تحت يافطة الدين، والقهر الاجتماعي، ويجعله أميّا في مدرسة الجنس ضمن عملية (المحاولة والخطأ!!)؛ فإن الجيل الجديد يُعاني من التلقِّي المتناقض اجتماعيًّا، حيث ما تزال فكرة الجنس التقليدية تعيش في أعماق (الأنا) كالحجارة؛ بينما ثقافة الإعلام تصنع خداع التضخيم، وزخرفة الكذب؛ فينشأ جيلٌ بارع في معرفة الطرق والأساليب للوصول إلى المتعة السريعة؛ لكنه غارقٌ في أوهام الجنس، ومخدوعٌ في الصورة ومُتعتِها، وفاشلٌ في حياته الجنسية.
ما زال الكثير في مجتمعاتنا المعاصرة يجهلون سبل التربية الجنسية، حيث الفقر في محتواها، وتمثل قاموسًا من العيبِ والعار، وقلةَ الأدب!؛ فمن الحشمة عدم التحدث مع الأبناء في هذه الأمور؛ بل ربما قاد التحدُّث مع الأبناء حول هذه الأمور إلى فتح عيونهم وعقولهم على أمور لم يكونوا ليعرفوها، كما يُشاع اجتماعيًّا! إنها أخطاء قاتلة في التربية تُميت الشجاعة في النفوس، وترفع منسوب القلق، وتهدم الحياة الزوجية، وتصنع أرقامًا قياسية في الطلاق!
لا أستغربُ عندما أقرأ في بعض قضايا المحاكم، أن خداع الصورة ونمطيَّتها هو سبب الطلاق، فالمرأة لا ترى في الزوج ما تجده في "دنجوان" الصورة المصنوعة بالحِيَل التكنولوجية، وتُصدق ما تراه من صور المتعة الطويلة الكاذبة. والزوج يشعر بالخذلان أمام برودة الزوجة؛ بالمقارنة مع شقراء الصورة وألاعيبها. ما كان هذا الأمر ليحدث لو أننا وفَّرنا مكتبةَ معارف علمية (جنسية) في عقل المجتمع، وفتحنا حوارًا صريحًا داخل الأسرة، وجعلنا مؤسساتِنا التعليمية تنطق علميًّا بأبجديات الحياة الجنسية!
لقد قرأتُ المزيد من آراء الشباب في الصحف؛ قال أحدهم: "أتمنى لو أن أحدًا فسّر لي في مرحلة ما من مراهقتي، أن الموضوع ليس كما كنت أعتقد"، وأُخرى تضيف: "سبب وجودنا في هذا العالم هو العملية الجنسية؛ فلماذا هي محاطة بكل هذه الهالة من العيب والحرام؟". وتكشف إحداهُنّ: "أنها كانت تعتقد أن مُدرِّسةَ العلوم تُخفي معلوماتٍ عنها".
ويقول أحدهم: "إن المدرسين لم يتطرّقوا يومًا إلى الفصل الذي كان يُفسّر عملية التكاثر والإنجاب، رغم فضول الطلاب الكبير. والكثير منا يعتقد أن أحجام أعضائهم الجنسية غير عادية وغير كافية لممارسة الجنس، أو يظنون أن العملية الجنسية تُسبب أوجاعًا كثيرة، أو تتطلب مهاراتٍ جسدية متقدّمة!". وتستغرب أُخرى: "بأن استخدام الكلمات البذيئة يُوحي أن الجنس شيء قذر ومبتذل". وتتساءل باستغراب: "لماذا الكلمات المتعلقة بجسد المرأة تُعد مسبّة".
بمنطق العلم، إن (الجنسانية) موجودة لدى كل الأشخاص، فهي جانب مهم من تكويننا كبشر؛ لذلك فإن التثقيف الجنسي له دور في حماية الأفراد والمجتمع، ويزيد من ثقة الأشخاص بأنفسهم، ويُصحح مفاهيمَ خاطئة؛ هو إيصال المعلومات العلمية لفهم الجسد والرغبات والشريك؛ بحيث تكون التجربة الجنسية آمنة وصحية ومفيدة.
حال مجتمعنا اليوم أنه يُنافق علنًا، ويكبح جماح الجنس تحت الظاهر المجتمعي، وملابس الحجاب والتقوى الظاهرة؛ حيث يخوض الأفراد، في السر، حياةً غير بعيدة عن الهوس الجنسي، والتباهي به؛ لكن المجتمع، في العلَن، يُنظم المسيرات الدينية، ويعقد المؤتمرات، ويُلقي محاضراتٍ في الإيمان والعفة والزهد.
ولربما نجح المجتمع في منع العلاقات بين الجنسين؛ لكنه، وعلى النقيض، جعل تلك العلاقات سريَّةً مُحصَّنةً بالفتاوي، ومُشاعة حسب أمزجة العقائد والطوائف؛ لذلك لا نستغرب، كما يقول أحدهم، أن يتحول الجنس إلى رديف لمفهوم الشرف، عليه تُهدر الدماء، وعليه تقوم الحروب الطاحنة، أكثر من هتك عرض الوطن!