هناك تهويل كثير يدور حول موضوع قرض صندوق النقد في تونس، فالرقم لن يحل مشاكلها كلها، فهو رقم محدود ودون ما تطلبه الحكومة، فضلا عن أنه سيقدم على أقساط، ولا يعطى القسم الموالي إلا بعد مراجعة الصندوق للخطوات التي تقطع في سياق الإصلاحات التي يطلبها. وإذا لم يتحقق ما يريد، فإنه يمكن أن يعلق برنامج الدعم كما يسميه.
الرسالة من وراء القرض ليست حل مشاكل تونس كلها، ولكن إعادة الثقة لها في السوق المالية الدولية، وهو بمثابة ضمانة معنوية تجعل صناديق أخرى أو دولا تتشجع لمنح تونس قروضا جديدة. وبالتالي فهو ليس حلا سحريا للمشاكل الكثيرة التي تعيشها البلاد، ولن يكون بديلا عن الإصلاحات التي يجب على البلاد أن تخوضها دون عواطف ولا شعارات ولا حسابات سياسية.
هذا القرض المحدود يمكن تشبيهه بقطعة الحلوى أو الشيكولاتة التي تعطى إلى طفل صغير لتشجيعه على مراجعة دروسه. الهدف ليس منحة مجانية لسواد عيون الحكومة، ولكن تشجيعها على دخول منطقة الإصلاحات القاسية التي تمنّع عن دخولها وزراء ومسؤولون سابقون في الحكومات التي سبقتها تحت وقع الحسابات السياسية، فلا أحد يريد أن يحسب عليه الإصلاح الهيكلي الذي يريده الصندوق، خاصة أن شعاره الرئيسي هو التقشف والقطع مع تبديد المال العام لشراء السلم الاجتماعي وترضية النقابات وتهدئة الأجواء لترك الحكومات تشتغل في راحة من أمرها.
هذا القرض المحدود يمكن تشبيهه بقطعة الحلوى التي تعطى إلى طفل صغير لتشجيعه على مراجعة دروسه. الهدف ليس منحة مجانية لسواد عيون الحكومة، ولكن تشجيعها على دخول منطقة الإصلاحات القاسية
الصندوق جرّب القصة من قبل، فقد تعامل بـ”حسن نية” مع حكومات سابقة كانت وعدته بتنفيذ الإصلاحات، لكنها خافت وتراجعت خوفا من تأثير ذلك على شعبية الأحزاب التي تشترك فيها. كما تراجعت خوفا من سطوة اتحاد الشغل الذي كان يطلب منها كل مرة زيادات في الرواتب ويرفع بوجهها ورقة الإضرابات والاعتصامات فتخضع له وتنفق ما كانت تحصل عليه من هبات أو مساعدات أو قروض في استرضائه.
الأمر الآن مختلف تماما، فالصندوق لن يعطي قبل أن يرى ما يطلبه من إصلاحات، والحكومة ليست لديها بدائل تعينها في الاستغناء عن شروط الصندوق وحزمه، فلم تترك لها الحكومات السابقة جهة إلا واقترضت منها وبددتها دون أن تكون لذلك نتائج على الأرض. أوروبا فيها ما يكفيها من أزمات خاصة في ظل أزمة توريد الغاز الروسي، وهي تفكر في سبل الخروج من هذه الأزمة، ولا يمكن أن تلفت إلى تونس ومعاناتها، وفي أحسن الأحوال تعطيها قروضا صغيرة جدا لمساعدتها على الالتزام بخلاص رواتب الموظفين ومنع البلاد من أن تتحول إلى دولة فاشلة وتتخلى من ثمة عن دورها في حراسة أوروبا خاصة في موضوع الهجرة.
الولايات المتحدة بدورها لا تعطي قروضا، وهي تؤشر إلى صندوق النقد أو البنك الدولي ليعطي القروض، لكن تطلب قبل ذلك مواقف سياسية تتماشى مع حساباتها خاصة ما تعلق بالديمقراطية والانتخابات، وهي تضغط بشكل واضح على هذا المستوى، ويمكن أن تفسر محدودية القرض المقرر لتونس بهذا المسار، فالرئيس قيس سعيد يرفض مجرد المناقشة في الإصلاحات التي يقوم بها وأساسها تهميش الأحزاب بشكل كامل وقطع صلتها بالعملية السياسية.
من بقي لتونس لتلجأ إليه بحثا عن قرض معتبر يمكن بواسطته أن تبدأ مهمة إنقاذ الاقتصاد دون أن تضطر لدخول المنطقة الخطرة التي تؤدي إلى الصدام مع الناس في وضع اقتصادي واجتماعي صعب، أي رفع الدعم عن المواد الأساسية بشكل يؤدي إلى جعل نصف الشعب في وضع من يحتاج إلى تعويض مالي لمواجهة تحرير الأسعار.
كيف ستقدر تونس على مراجعة جذرية لسياسة الإنفاق العام لتجد نفسها في مواجهة بيروقراطية نافذة عروقها ممتدة في كل اتجاه. هل تقدر على الاقتراب من موضوع السيارات الوظيفية وتكاليف البنزين المجاني والهدر لأموال المجموعة الوطنية من خلال منح وترضيات وعلاوات في الإدارة التونسية هي في الأصل مقررة بالقانون بشكل يؤسس للفساد ويحمي المستفيدين منه، قوانين صاغتها البيروقراطية لخدمة نفسها، وهو ما يفسّر إلى حد كبير رفض اقتراب الإصلاحات من المؤسسات الحكومية الكبيرة التي تقدم علاوات وامتيازات كبيرة لموظفيها، وخاصة منهم الكوادر الكبيرة.
هناك تخوّفات من أن تضطر حكومة بودن للسير على نهج سابقاتها بتبديد القرض في غير ما هو مخصص له مثل تسديد قروض وديون سابقة
سعت الحكومة للبحث عن قروض من دول عربية وإسلامية نفطية، لكن لا مؤشرات على وجود استجابة. الجزائر، مثلا التي لا يكف رئيسها عبدالمجيد تبون على إظهار عطفه وحبه ووده وحماسه لتونس ورئيسها، لديها حسابات داخلية ومعارك خارجية تجعل من الصعب عليها أن تلتفت إلى تونس وتمكنها من قرض وتسهيلات تساعدها على إدارة أزمتها الاقتصادية.
فمن بقي؟
دول الخليج نفسها تغيرت بشكل كبير، ولم تعد تنظر بشكل تقليدي للأموال المتأتية من النفط. وإذا كانت في السابق تقدم مساعدات أو قروض لدول عربية غير نفطية، صارت للخليجيين الآن اهتمامات كبيرة تقوم على توفير عائدات النفط في بناء مشاريع عملاقة للمرحلة القادمة تهيؤا لمرحلة ما بعد النفط، وهذا يحدث أساسا مع السعودية والإمارات.
قطر بدورها ينصبّ اهتمامها وتمويلاتها على إنجاح كأس العالم لكرة القدم، وهناك حساسية في علاقتها بتونس ترتبط بالأجندة السياسية ما يجعل أيّ تمويلات بعد كأس العالم موجهة وفق درجة انفتاح الرئيس قيس سعيد على أصدقائها، وهو أمر معقد يشبه إلى حد كبير الموقف مع الولايات المتحدة.
ولأجل ذلك، فإن حكومة نجلاء بودن ستجد نفسها مجبرة على سلوك الطريق الذي يريده صندوق النقد، وأن تبدأ بتنفيذه دون حسابات ولا تلكؤ لربح الوقت وتحصيل الأقساط المتتالية من القرض، خاصة أن قطع خطوات لا بأس بها في عملية الإصلاح قد تساعد على تشجيع تمويلات أخرى.
لكن هناك تخوّفات من أن تضطر حكومة بودن للسير على نهج سابقاتها بتبديد القرض في غير ما هو مخصص له مثل تسديد قروض وديون سابقة، أو السقوط في الشعبوية بمحاولة ترضية الشارع الغاضب قبل الانتخابات كما كان يحصل في السابق، وخاصة الوقوع تحت ضغوط النقابة من خلال صرف القرض لتسوية وضعيات منتدبي التربية، وعمال الحظائر، وتنفيذ اتفاقيات مجحفة كانت صادقت عليها حكومات سابقة تخص الزيادات في الرواتب خلال السنوات الثلاث القادمة.