يقدم المفكر المغربي الدكتور عبدالسلام طويل قراءة نقدية حول إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة في الفكر العربي المعاصر مؤسسًا قراءته النقدية على رؤية كل من المفكرين الدكتور برهان غليون والدكتور محمد عابد الجابري والدكتور محمد أركون، والتي يجمعون فيها على أن منشأ إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة في الفكر العربي المعاصر يرجع إلى دخول العلمانية في الوعي العربي الحديث عن طريق الضغط الاستعماري والتغريب الثقافي، حيث يذهب الدكتور محمد عابد الجابري إلى أن شعار العلمانية قد طرح أول ما طرح في الوطن العربي في منتصف القرن التاسع عشر على يد مفكرين مسيحيين عرب في سياق الدعوة إلى الاستقلال عن الأتراك وهي الدعوة التي التف حولها تيار كامل جرى نعته بتيار القومية العربية.
حيث يلاحظ الدكتور محمد عابد الجابري أن شعار العلمانية لم يرفع في بلدان المغرب العربي ولا في بلدان الخليج العربي، بل ولا حتى في مصر، غير أنه طرح من جديد بعد استقلالية الدولة العربية وبدأ التنظير لفكرة القومية العربية، خاصة في الأقطار العربية التي توجد فيها أقليات دينية مسيحية بصفة خاصة، ليستنتج من ذلك أن الدلالة الحقيقية لرفع شعار العلمانية في إطار فكرة القومية العربية كان مرتبطاً ارتباطًا عضويًا بمشكلة حقوق الأقليات الدينية وبكيفية خاصة حقها في ألا تكون محكومة بدين الأغلبية بما يفيد أن الدلالة السياسية والتاريخية لاستدعاء هذا المفهوم (الشعار) إنما جاء لتعزيز بناء الدولة العربية على أساس ديمقراطي عقلاني.
ومع ذلك، فقد اعتبر الدكتور محمد عابد الجابري أن الاختيار العلماني في الوطن العربي حيث الإسلام لا يؤمن بالتعارض بين الدين والدولة يعد اختياراً غير موضوعي وغير واقعي وغير ذي موضوع بل أكثر من ذلك، يعتبره الدكتور الجابري اختيارًا مزيفًا يعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات، فالحاجة إلى الاستقلال في إطار هوية قومية واحدة، والحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات حاجات موضوعية فعلًا ولكنها تفقد مشروعيتها عندما يعبر عنها بشعار ملتبس وغامض كشعار العلمانية.
ووعياً من الدكتور برهان غليون بما يعتري مفهوم العلمانية من التباس وغموض وما يثيره من سوء تفاهم بين مختلف الفرقاء ينبه إلى أن الحديث عن العلمانية وفهم مضمونها ومقاصدها ومستقبل العمل بها يستوجب التمييز مسبقًا بين مستويين: مستوى الواقع الذي تسعى العلمانية أو تفترض أنها تسعى إلى مواجهته.. ومستوى التركيب النظري لهذا الواقع الموضوعي أي إدراكه وتفسيره والكشف عن قوانين حركته واقتراح الحلول المناسبة للسيطرة عليه انطلاقًا من أن كل نظرية اجتماعية هي مزيج من تحليل الواقع في الاتجاه الملائم للقيم الاجتماعية السائدة.
ومن المفارقات التي يمكن تسجيلها في هذا السياق أن الدكتور غليون بعد أن يعتبر العلمانية نظرية كغيرها من النظريات وليست عقائد مقدسة وإنما هي أدوات إجرائية لفك تعقيدات الواقع تفقد قيمتها إذا ضعف مردودها وتراجعت قدرتها التفسيرية لتفسح المجال لنظرية أكثر قوة منها يعود الدكتور غليون ليؤكد أنه استنادًا على ما أبدته العلمانية كنظرية إجرائية في الاجتماع السياسي أنها قد تحولت إلى قيمة ثابتة ورصيد معنوي في الفكر الغربي الحديث ومن ثم إلى مصدر لقيم أخرى. وهو ما لم يتردد في نفيه في موضع آخر، بجزمه أن العلمانية ليست بذاتها منبعًا للقيم ولم تعني أبدًا بترسيخ القيم الإنسانية والمساواة بين البشر مستحضرًا بذلك التاريخ الاستعماري الغربي وما ارتبط به من نهب واسترقاق وإبادة للسكان الأصليين في كل من أمريكا واستراليا.
وبعد أن يؤكد أن العلمنة تنحو في بعديها السياسي والفلسفي إلى تجسيد عقلانية السياسة والوعي وتنظيم الحياة الفردية، غير أن الطابع العقلاني التحرري للعلمانية لم يمنع الدكتور غليون من كشف محدوديتها وتناقضاتها فإذا كانت العلمانية في بعدها السياسي تهدف إلى تحرير الدولة والسياسة من تسلط الكنيسة فإنها لم تفلح في تحقيق المساواة بين الأديان.
فإذا كان نجاح العلمانية في حسم مشكلة ازدواج السلطة في الغرب المسيحي قد أعطى لها مصداقية في العقود الماضية وربط بينها وبين الديمقراطية والتسامح والتعددية الفكرية والدينية، إلا أن عودة القيم الدينية بقوة في العديد من المجتمعات ومن ضمنها المجتمعات الأوروبية، وكذا بروز الظاهرة الإسلامية خاصة في بعدها الأحيائي أصبح يطرح العديد من التساؤلات حول القيم التاريخية والعالمية للعلمانية، ذلك أنه مع تزايد التفاعل بين الدين والسياسة بدأت تظهر العديد من الانتقادات التي تشير إلى المشاكل الجديدة التي يثيرها الفصل القاطع بين الدين والدولة على الحياة الثقافية والروحية، وهو ما جعل الدكتور برهان غليون يتساءل عن حقيقة العلمنة كواقع تاريخي حضاري عام اليوم، وعن قيمة العلمانية كنظرية علمية ومدى إمكانية تطبيقها بنجاح على جميع المجتمعات وفي كل الظروف.
إذ لا يكتفي الدكتور غليون بالحديث عن العلمانية كنظرية أو كواقع تاريخي معاصر ولكنه يعود إلى أصولها التاريخية البعيدة في بنية الفكر الديني المسيحي وأصل التناقض أوالصراع الذي قاد الى نشوء العلمانية.. غير أن هذه العلاقة المتوترة والعنيفة بين الدين والدولة لم تكن قاعدة عامة في سريانها على كل المجتمعات البشرية، وإنما كانت حالة خاصة بأوروبا في القرون الوسطى.
وانطلاقًا من كل هذا ينادي الدكتور محمد أركون بما يسميه العلمانية المنفتحة وهي علمانية لا تعني القضاء على الدين أو الإيمان علمانية تولي أهمية كبرى للبعدين الروحي والدنيوي لدى الإنسان.. إذ إنه ينبغي ألا يحول شيء بين الإنسان وبين كشف المجاهيل المادية والروحية للوجود إن هذه العلمنة الإيجابية تأخذ الإنسان في كليته المادية والروحية دون أن تؤثر بعدًا من أبعاده على حساب البعد الآخر، والتي تقف على طرف النقيض من العلمانية التي سادت في القرن التاسع عشر والتي لا تزال ترفض بشكل قاطع أخذ مسألة البعد الديني للإنسان بعين الاعتبار.
ويؤكد الدكتور أركون أنه لا يجوز حرمان الإنسان من دراسة الدين والتعمق فيه واعتبار الظاهرة الدينية مجالاً جادًا للمعرفة والفهم، فحرية التفكير العلمانية العقلية لا تقابلها حرية الإيمان وهذا يعطي نوعاً من عدم التوازن، ولذلك يقترح الدكتور محمد أركون ضمن برنامجه الإصلاحي ضرورة القيام بدراسة تحليلية تذهب إلى جذور الأشياء وتأخذ مسألة الوحي بعين الاعتبار وبشكل جذري.