: آخر تحديث
كتاب يبحث في تاريخ هذا الاكتشاف السوري

أوغاريت والعهد القديم: علاقة وثيقة

16
15
15
مواضيع ذات صلة

صدر كتاب أوغاريت والعهد القديم للباحث البريطاني بيتر كريغ بالعربية، وقد  ترجمه الباحث الفلسفي فراس السواح. وتأتي أهمية هذا الكتاب مترجماً بالعربية (صدر قبل فترة عن دار التكوين الدمشقي للنشر، وكان الكتاب قد تُرجم قبل أربع سنوات، وخطط له أن يصدر عن دار ممدوح عدوان للنشر، لكن لم يتم توزيعه وتسويقه في حينها لأسباب خاصة) من كونه يسلّط الضوء على مملكة أثرية هامة وهي أوغاريت، الواقعة في منطقة الساحل السوري وتطل على البحر المتوسط في موقع  رأس شمرا الذي يبعد شمالاً عن مدينة اللاذقية الشاطئية حوالي 15 كيلومتراً.

هذه المملكة التي أسسها الكنعانيون في القرن الثامن عشر قبل الميلاد باسم أوغاريت كان لها تاريخ حافل من الإنجازات الحضارية ومنها تقديمها أول أبجدية في التاريخ وأول نوته موسيقية في العالم كما قدّمت نصوصاً أدبية رائعة، وقد عرفت عصرها الذهبي في القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد، ويعود الفضل في اكتشافها إلى العالم الآثاري الفرنسي كلود شيفر في سنة 1929.

يؤكد كريغ أن من النادر اليوم ألا نجد في الشروحات والتعليقات على كتاب العهد القديم إشارات متعددة إلى مواقع أثرية، مثل قُمران قرب البحر الميت وأوغاريت على الساحل السوري قرب مدينة اللاذقية. صار موقع قُمران اسماً معروفاً إلى حد ما، أما موقع أوغاريت الذي لا يقل عنه أهمية، فلم يحظَ بالشهرة التي حظي بها قمران، على الرغم من أن اكتشافه ساهم إلى حد كبير في إعادة ترجمة وتفسير الكثير من كلمات ومقاطع كتاب العهد القديم، "وهذا ما دعاني إلى وضع هذا الكتاب الذي يبحث حضارة مدينة أوغاريت القديمة وميراثها، لقد كانت أوغاريت واحدة من مدن كثيرة ملأت الكتاب المقدس، ولكن أهميتها تكمن في تلك الثروة من النصوص الأدبية التي أضافت الكثير إلى معلوماتنا عن عالم الكتاب المقدس، وإلى درجة فاقت ما قدمه أي موقع أثري آخر شرقي المتوسط، وساعدت على ملء الفجوات بين العالم القديم والعالم الحديث".

يتضمن الكتاب (140 صفحة من القطع الكبير) دراسة أولية تحت عنوان "نظرة جديدة على عالم الكتاب المقدس"، ومن ثم فصول الكتاب الستة وهي: اكتشاف مدينة ضائعة؛ الحياة في أوغاريت؛ اللغة والأدب؛ العهد القديم والدراسات الأوغاريتية؛ اكتشافات جديدة وآفاق مستقبلية. ويختم المؤلف كتابه بالفصل السادس الذي حمل عنوان "مرشد لمزيد من الدراسة والاطلاع".

يرى المؤلف أن الكتاب المقدس ليس من حيث المبدأ وثيقة عصيّة على القراءة، كما أنه واضح من حيث الجوهر والرسالة وإن المشكلة لا تكمن في نص العهد القديم نفسه، إنما في افتقارنا إلى المعارف العامة التي تُسهل علينا قراءته واستيعابه، ويقترح هنا المؤلف أنه لعلّ الوسيلة الوحيدة لمعالجة هذا الوضع هي مراكمة مخزون معرفي يعيننا على فهم ما نقرؤه من كلمات، ولكن كيف نفعل ذلك؟ يجيب كريغ: "إن واحداً من الأجوبة الرئيسية عن هذا السؤال يأتينا من علم الآثار الحديث".

مدخل القصر الملكي التاريخي في أوغاريت

يسهب المؤلف في كتابه عن كيفية اكتشاف أوغاريت من خلال حدث مثير. ففي أحد الأيام الربيعية من عام 1928، كان الفلاح محمد ملا المقيم قرب خليج مينة البيضا على الساحل السوري الشمالي قرب مدينة اللاذقية يمارس عمله الزراعي المعتاد عندما اصطدم محراثه بعثرة تحت التربة. قام ملا بتحرير العثرة من مكانها فوجدها بلاطة حجرية من صنع الانسان، تغطي فوهة دهليز سفلي يؤدي إلى مدفن قديم. وعندما هبط إلى داخل المدفن عثر على عدد من القطع الأثرية القيّمة باعها إلى تاجر آثار، لكنه لم يكن يدري أنه بفتحه الغطاء عن فوهة المدفن، فهو فتح باباً سوف يؤدي إلى اكتشاف كبير الأهمية في ما يتعلق بتاريخ وحضارة الشرق القديم. 

يستعرض المؤلف في ما بعد أعمال بعثات التنقيب الأثرية التي عملت في موقع أوغاريت وقدمت مكتشفات مذهلة ومنها الأبجدية اللغوية الأولية من خلال حل رموز الكتابة الأوغاريتية في عام 1931حيث لاحظ العالم الأثري في وقتها فيروللو، رئيس بعثة التنقيب في أوغاريت، أن الكتابة الأوغاريتية تقوم على نظام أبجدي، وأن الكاتب الأوغاريتي كان يستعمل إشارة إسفينية مفردة للفصل بين الكلمات.

في خوض المؤلف عن واقع الحياة في أوغاريت يوضح أن أوغاريت غابت قبل ثلاثة آلاف عام من يومنا هذا وآلت حضارتها إلى نهاية مفاجئة ولم تعد الحياة إليها بعد دمارها نحو عام 1190 قبل الميلاد، لكن خرائبها وبقاياها التي درست بعناية من قبل الآثاريين الفرنسيين، جعلت من الممكن إعادة بناء وتصور ما كانت عليه الحياة في هذه المدينة، بشكل تقريبي وخاصة في القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد. حيث شكل موظفو الكهنوت شريحة اجتماعية مهمة في أوغاريت فقد كان معبدا بعل وداجان يشرفان على المدينة، ولم يتفوق عليهما من حيث الحجم إلا القصر الملكي، وفي نصوص أوغاريت نتابع فعاليات عبادة الخصب حيث يعتقد أهلوها بأن خصب الأرض يعتمد على خصب الآلهة.

في مجال اللغة والأدب، يرى المؤلف أن العلاقة بين الأوغاريتية والعبرية بقيت موضع جدل بين الباحثين، فبعضهم يرى أن هاتين اللغتين وثيقتا الصلة، وأنهما لهجتان إقليميتان في لغة كنعانية واحدة ضمن المجموعة السامية الشمالية الغربية، بينما يرى آخرون أنهما أقل صلة مما يرى الفريق الأول، وهؤلاء يركزون على الفوارق بينهما أكثر من تركيزهم على التشابهات. في الواقع، كما يؤكد المؤلف، إن طبيعة الشواهد التي وصلتنا من أوغاريت لا تسمح بالتوصل إلى نتيجة حاسمة لهذا الجدل بين الفريقين.

في نهاية كتابه، يتوقع كريغ أن تحمل الاكتشافات الجديدة التي حصلت في الخمسين سنة الأخيرة في إيبلا (تل مرديخ التي اكتشفها العالم الايطالي باولو ماتييه في سنة 1964 في شمال غرب سوريا بمحافظة إدلب) وكذلك التنقيبات والاكتشافات الأثرية في رأس ابن هانئ المجاور لأوغاريت، آفاقاً مستقبلية في زيادة المعرفة عن العالم القديم الذي ازدهرت به حضارة أوغاريت.

ويختم كريغ كتابه بالقول: "إن معرفتنا بأوغاريت مهمة في حد ذاتها، وهي قطعة فسيفساء الحضارة القديمة التي عملنا جزئياً على إعادة تركيبها، والتي ساهمت جزئياً في تكوين حضارتنا الحديثة".

في عودة إلى أوغاريت وحضارتها العريقة، برهن التنقيب الأثري على أن أوغاريت اعتمدت في نهضتها على التجارة والزراعة والصناعة. ففي مجال التجارة كانت أوغاريت مركزاً مهماً للمبادلات التجارية بين الشرق والموانئ البحرية على المتوسط بواسطة القوافل البرية واسطول بحري تجاري هام، يشهد على ذلك العدد الكبير من المراسي الحجرية وهدايا البحارة النذرية التي عثر عليها في أوغاريت وفي مرفئها (مينة البيضا).

من التماثيل الأثرية التي وجدت في أوغاريت

أما في مجال الزراعة فقد كان الزيتون والكرمة العنصرين الأهمين اللذين يصدر منتوجاتهما من الزيت والخمر الى أماكن عديدة اضافة الى خشب البناء من الغابات المجاورة . وفي الصناعة اشتهرت أوغاريت ببعض الأصبغة والصوف المصبوغ بالأرجوان وبالحفر على الخشب و العاج وتصنيع الأدوات الفخارية وبصناعة الزجاجات والخزفيات.

استوردت أوغاريت المواد الأولية اللازمة لصناعتها كالكهرمان و اللازورد وعاج الفيلة والصحون المرمرية والحلي الخزفية والحجارة الصلدة والمواد المعدنية. أما من الناحية العمرانية فتبدو أوغاريت في غاية الازدهار والنشاط فيها القصور والمعابد، وشوارع تخترق احيائها ومجارير تمر تحت منازلها لتصريف المياه المستعملة، وقد عثر في القصر الملكي على عدة غرف كانت عبارة عن دواوين ووثائق فكان هناك ديوان للوثائق الادارية فيها لوائح بأسماء المدن والقرى التابعة للمملكة مع الضريبة المترتبة على كل منها ولوائح بالنقابات المهنية، وهنالك ديوان للوثائق القانونية بينها العقود التي كانت تتم بين السكان من بيع وشراء و وصايا وصفقات تجارية، وهنالك أيضاً ديوان للمراسلة الدبلوماسية مع العالم الخارجي، وقد عُثِرَ أيضاً في المدينة على مكتبتين تابعتين لأفراد تحتويان على وثائق تعطينا فكرة عن المستوى الثقافي للمدينة، كما عثر أخيرا على مكتبتين تضمان نصوصاً دينية هي عبارة عن أساطير جميلة تروي مغامرات الآلهة والأبطال .

إنّ أهم ما أوجدته الحضارة الأوغاريتية طريقة جديدة في الكتابة ـ كما يؤكد الباحثون ـ فمن المعروف أن الشرق القديم في العصور التي سبقت القرن الرابع عشر قبل الميلاد كان يستعمل طريقتين في الكتابة: إما الطريقة الهيروغليفية حيث كل إشارة ترمز الى كلمة أو الى صوت، وإما الطريقة المسمارية الصوتية حيث ترمز كل اشارة الى صوت، وكانت كل من هاتين الطريقتين تحتاج الى مئات الاشارات للتعبير مما كان يجعل الكتابة غاية في الصعوبة، فكان لابد من اكتشاف طريقة اكثر سهولة وذلك بِإيجاد أسلوب يسمح بكتابة الحرف مستقلاً عن اللفظ الذي يليه صوتيا، كما هو الحال في أبجديتنا الحديثة، وإن أول مرة استعمل الانسان فيها هذه الطريقة السهلة كانت في أوغاريت، فقد عثر فيها على لوحات فخارية تحمل نصوصاً مكتوبة بأبجدية مسمارية لا يتجاوز عدد أحرفها الثلاثين والتي دعيت باللغة الأوغاريتية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات