لم يكن السفر بالنسبة إليَّ يوماً مجرّد وسيلة للاكتساب أو حيلة لجمع المال، ولم أنظر إليه كخطة عملية لتوسيع موارد الرزق أو تحسين ظروف المعيشة، بل كان، منذ بدايات وعيي الأولى، شغفاً دفيناً ينهض من أعماق الروح، ورغبة متقدة تشتعل كلما شعرتُ بجدران الحياة اليومية تضيق عليّ، ونهماً لا يهدأ للمعرفة والاكتشاف والتأمل. لقد بدا السفر، في نظري، نافذة مشرّعة على عوالم لا تُختصر في الخرائط ولا تُقاس بخطوط الطول والعرض، بل فضاء رحب يمدّ الإنسان بألوان جديدة من التجارب والعلاقات، ويمنحه بصيرة مختلفة في النظر إلى ذاته وإلى الآخرين.
كأنّ من يسافر ينقش على روحه نقشاً لا يُمحى، إذ إنّ كثيراً من الحقائق لا تُدرك إلّا حين تُعاش، وكثيراً من الدروس لا تُتعلّم إلّا حين يُلقى بنا في قلب التجربة، حيث تتكشّف معانٍ كنا نظنها بعيدة أو غائبة. السفر يُحرّك فينا حواساً راكدة، ويوقظ في وعينا قدرةً على قراءة المشهد الإنساني بأبعاد أكثر رحابة. إنّه امتحان داخلي للروح قبل أن يكون رحلة خارجية للجسد، تمرين على الإصغاء لطبقات الذات، ودرس في القدرة على التكيّف مع المجهول.
لكن هذا الشغف لم يكن طريقه مفروشاً بالورود؛ فالسفر في عصرنا الحديث امتحان لصبر المرء وجلَده، قبل أن يكون متعة لعينيه وروحه. تكفي صورة الطوابير الطويلة أمام السفارات لنفهم ما أعنيه: وجوه متعبة تنتظر على المقاعد الباردة، أوراق متراكمة يُطالبونك بها تحت مسمّى "اشتراطات الحصول على التأشيرة"، أسئلة لا تنتهي، نظرات فاحصة كأنها تستجوب أحلامك لا أوراقك. ولعلّ الأكثر وطأة ليس الجهد ولا الإرهاق، بل ذلك الثمن المادي والنفسي الذي يُقتطع من رصيدك قبل أن تضع قدمك على أرض الحلم ذاته. كأنّ السفر اختبار خفي: هل أنت مستعد أن تدفع من وقتك ومالك وطاقتك مقابل أن ترى ما وراء الأفق؟
ومع ذلك، فإنّ الرغبة الصادقة لا تُقاس بما يُبذل لها من تعب، بل بما تفتحه من أبواب في الداخل قبل الخارج. فالرغبة، في حقيقتها، ليست نزوة عابرة ولا مجرد ميل إلى التغيير، بل هي موقف وجودي يحدّد وجهة الروح. المعرفة التي يهبها السفر ليست مجرد معلومات عن جغرافيا أو معالم سياحية، بل هي انفتاح على الآخر: كيف يعيش؟ كيف يفكّر؟ ما القيم التي تحكم سلوكه؟ وما الأحلام التي يسعى إليها؟
إنها رحلة مزدوجة: رحلة نحو العالم الخارجي بألوانه ولهجاته وروائحه وأصواته، ورحلة نحو أعماق النفس، حيث يتعلم الإنسان أن يقارن دون تعالٍ، وأن يعجب دون انبهار أعمى، وأن يستخلص من كل مشهد ما يضيف إلى تجربته الخاصة. هناك مدن تعلّمك معنى الصبر، وأخرى توقظ فيك خيالاً لم تكن تدري أنك تملكه، وثالثة تضعك وجهاً لوجه أمام خوفك من الوحدة أو شغفك بالحرية أو قلقك من المجهول.
وليس من الإنصاف أن يُختصر السفر في الإيجابيات وحدها، ولا أن يُدان في سلبياته المحتملة. إنه مزيج بين هذا وذاك، مفتاح لمن أراد أن يعي دروسه. قد يمنحك متعة الاكتشاف ولذة التغيير، لكنه أيضاً يعرّيك من أوهامك، ويضعك أمام نفسك: هل تستطيع التكيّف مع ما هو مختلف؟ هل تملك الشجاعة لتتجاوز غربة المكان إلى ألفة جديدة؟ أم أنك ستظلّ حبيس قوقعتك، تنظر إلى الآخر من وراء زجاج سميك؟
السفر في جوهره أشبه بمدرسة كبرى، لا جدران لها ولا مقاعد ثابتة، بل فضاءات تتسع بقدر ما يتسع القلب والعقل. في هذه المدرسة يتعلّم الإنسان أن يعيد ترتيب أولوياته، وأن ينظر إلى الحياة من زوايا لم يكن يدركها. بين مطار وآخر، وبين لغة لم نفهمها وابتسامة غريب أسعدتنا أكثر من كلام طويل، يكتشف المرء أنّ البشرية، بالرغم من اختلافاتها، تجمعها خيوط رفيعة من المعنى، وأن الإنسان في جوهره واحد، مهما تعددت لغاته وألوانه وأديانه.
لقد اختبرتُ السفر كمن يختبر مرآة تعكس وجوهاً متعددة لذاته. في كل مدينة أدركت أنني لست وحيداً في حيرتي أو فرحي أو قلقي، وأنّ ما أحمله من أسئلة يتردد صداه في قلوب آخرين على بعد آلاف الأميال. هناك شعرت بأنّ حزني ليس فريداً، وأنّ بهجتي ليست غريبة، وأنّ جوعي للمعنى مشترك بين بشر لم أرهم من قبل. وهنا يتجلّى البعد النفسي العميق للسفر: إنّه يحررك من سجن الاعتقاد بأنك مركز الكون، ويعلّمك أن التواضع أمام التجارب الإنسانية هو الطريق الأصدق لفهم الحياة.
أما البعد الاجتماعي في السفر، فيكمن في قدرته على تربية حس المشاركة والانتباه للتفاصيل الصغيرة التي تصنع الفروق الكبرى: تحية عابرة قد تعني أكثر من حوار طويل، طريقة جلوس الناس في مقاهٍ قديمة، صمتهم في المترو أو ضحكاتهم العالية في الأسواق الشعبية. كل تلك المشاهد ليست تفاصيل عابرة، بل هي شيفرات تفتح وعياً جديداً، يجعلك أكثر قدرة على قراءة مجتمعك أنت أيضاً، بعين أعمق وأصدق.
وثمّة ما هو أبعد من مشهد السائح العابر. فالسفر، حين يُعاش بصدق، يدرّبك على الإصغاء قبل الكلام، وعلى التأمّل قبل الحكم، وعلى إدراك أن العالم ليس لوحة معلّقة للنظر، بل كائن حيّ يتنفس عبر تفاصيله اليومية. تتعلم أن تُصغي إلى دقّات ساعة قديمة في ميدان، أو إلى هدير قطار في مدينة غريبة، فتكتشف أنّ الزمن هناك يمضي بطريقة مختلفة، وأن الناس يقيسون أعمارهم بمعايير لا تشبه معاييرك.
وإذا كان السفر قد منحني متعة الاكتشاف، فقد علّمني أيضاً أن أرى نفسي في عيون الآخرين: كيف يرون الغريب؟ هل يستقبلونه بابتسامة أم بحذر؟ هل يفتحون له أبوابهم أم يضعون أمامه أسواراً خفية؟ هنا تتجلّى دروس أخرى، اجتماعية وأخلاقية، تجعل الإنسان أكثر وعياً بموقعه من الآخر، وأكثر إدراكاً لحاجته إلى الحوار بدل الصدام، وإلى الفهم بدل الحكم.
لهذا، حين أقول إنّ السفر مدرسة، فإنني لا أطلق وصفاً عابراً أو استعارة شعرية، بل أعبّر عن يقين تشكّل عبر التجربة: السفر مدرسة للحياة بحد ذاتها. فيه نتعلم أنّ العالم أكبر من دوائرنا الضيقة، وأننا أصغر مما نظن وأعظم مما نتخيّل، متى ما امتلكنا الشجاعة لعبور الحدود وفتح قلوبنا على الآخر.
السفر، في النهاية، ليس فقط حركة في الجغرافيا، بل حركة في الروح. إنه امتحان لقابليتنا على النمو، ودرس في التواضع أمام عظمة التنوّع البشري، وتذكير دائم بأننا لسنا سوى مسافرين عابرين في رحلة أكبر اسمها الحياة.