لم يعرف الكرسي الرئاسي، منذ إعلان الجمهورية السورية الأولى عام 1946، طعماً للهدوء، وكأن لعنةً ربطت المقام الرئاسي بالموت والدمار، سواء بالمقصلة، أو بالمنفى، أو بالقبر الذي يُنبش، ولو بعد حين. فمن جلس على الكرسي لم يعرف الاستقرار، ومن حلم به دون وصول، دفع ثمن الحلم رصاصًا أو اختفاءً قسريًا. هو الكرسي الوحيد في المنطقة الذي لا "تنتهي ولايته"، بل "ينهي صاحبه"، ويعيد تشكيل المقبرة السياسية كل عقدٍ من الزمن.
منذ البداية، أطلّ الرئيس حسني الزعيم، وكأول عسكري ينقلب على السلطة المدنية، بانقلاب 30 آذار 1949 ضد الرئيس شكري القوتلي، فحكم أربعة أشهر فقط، ليُنقلب عليه في 14 آب من العام ذاته، ويُعدَم رميًا بالرصاص مع رئيس وزرائه محسن البرازي في سجن المزة، بيد سامي الحناوي، الذي تولى السلطة في انقلاب ثانٍ، ثم وجد نفسه لاحقاً مقتولاً في بيروت عام 1950 على يد هرشو البرازي، ابن عم محسن البرازي، وهو كردي الهوية، ثأراً لابن عمه.
أما البرازي، الرجل المدني الوحيد في طاقم عسكري، فلم يسعفه لا دهاؤه ولا دبلوماسيته، ولا محاولاته اتباع سياسة مختلفة لمصلحة سوريا، فتم تحويله إلى مجرد رقم يُمحى بأمر عنصري عسكري.
وقد تتالى المسلسل الدموي، فجاء أديب الشيشكلي، ثالث الانقلابيين، الذي حكم من 1951 حتى 1954، وحاول أن يصنع جمهورية استبدادية تحت ستار حزب، ففشل، وهرب إلى البرازيل، حيث لحقه الموت عام 1964 على يد نواف غزالة.
كرسي الرئاسة في سوريا لم يكن مجرد سلطة، بل لعنة. قصر الرئاسة لم يكن قصراً فقط، بل بدا وكأنه قبو مغلق يُفضي إلى سرداب منفي، أو رصاصة شاردة. بل هناك في عراق الجوار، كان لمن خسر الكرسي محطة أخيرة، لا يزورها أحد بإرادته: قصرٌ اسمه "النهاية"، أسسه العراقيون لملكهم الهاشمي وأسرته، فحوّله البعثيون بعد انقلاب عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف 1958 إلى سجن سياسي لا يخرج أحد منه حيًا، وكان لأحمد حسن البكر وصدام حسين تاريخ أسود معه، بعد أن انقلب الثاني على الأول بعد إحدى عشرة سنة عجفاء من حكمه، ومارس بحقه سياسة العزل والتهميش والموت البطيء.
وحتى من لم يُقتل جسديًا، ممن جلسوا على كرسي الرئاسة أو السلطة، مات سياسيًا: رفعت الأسد، الأخ المارق، قاد انقلابًا داخليًا ضد شقيقه حافظ الأسد في آذار 1984 وفشل، فعاش في قصور أوروبا، ودفن طموحه في ثلاجة التاريخ. وماهر الأسد، الأخ الأصغر لبشار، وقف في الظل ولعاب شهوة الكرسي يسيل من فمه، بين صورة القائد العسكري وقناع الطامح، فيما الكرسي لا يتسع لأكثر من مؤخرة واحدة.
أما رؤساء الحكومات، فلكلٍ منهم قصة لا تقل مرارة: صلاح الدين البيطار، أحد مؤسسي حزب البعث، اغتيل في باريس في 21 تموز 1980، بعد أن أصبح من المغضوب عليهم. خالد العظم، طُورد، وشُوّه، ونُفي حتى توفي في بيروت عام 1965. جميل مردم بك، وفارس الخوري، من قادوا حكومات الاستقلال، ماتوا بصمت، بلا تأبين رسمي، وكأن أحداً أراد محوهم من الذاكرة.
من يصدر قرار قتل، يُقتل. ومن يحلم بالكرسي، يُقمع. ومن يجلس عليه، يعيش الموت البطيء أو السريع، حيث كل دقيقة على الكرسي تُخصم من العمر السياسي، وكل توقيع مرسوم قد يكون ختم قبر. إنه كرسي لم يكتب الخلود - حتى المعنوي - لأحد شاغليه، من قبل السوريين جميعاً، على حد سواء!؟
إنه الكرسي الذي لا يصادق، لا يرحم، لا يشفق. لا فرق بين عميل ووطني، بين بعثي وقومي، وليبرالي، بين ضابط ومدني. كلهم سواسية في دفتر النهاية. وإن أعظم لعنة لهذا الكرسي: أن كل من جلس عليه، كان يظن نفسه خالداً. وفي مواجهة هذا الكرسي، تتجلى شهوة السلطة في أقبح صورها، حين يتحول حتى الجاهل أو الأمي المريض الذي لم يتعلم حتى كتابة اسمه في حياته إلى كائن هائج، إذ يظن كل متضخم الذات نفسه مؤهلاً لقيادة الملايين، بمجرد أن يلمح أحد المرضى إمكانية التسلّق إلى عرش الحكم، كما لو أن حروف اسمه تلمع فجأة في كتب التاريخ. وقد لا ينجو من هذا الوهم حتى العالم أو الأكاديمي، حين يفسد الطموحُ ضميره، وتتورم ذاته انتفاخًا مرضيًا، فيستبدل فضيلة المعرفة بجنون الاستحواذ، ويفقد بوصلته الأخلاقية على درَج الوصول. فكلما تضخمت الذات، تضاءل الحسّ بالحدود، وتحولت السلطة من أداةٍ لخدمة الناس إلى غاية مريضة تتغذى على أنقاض الآخرين.
إن الأكثر طمأنينة، من عرف قدره، ولم يطلب ما يتجاوز حجمه، ووقف عند حده، غير طامع بما لا يليق به. إذ إن كل رئيسٍ نرجسي، مغامر، عدواني، مريض في عمق ذاته، جبان، ويتحول إلى قاتل إذا واجه أي خطر على الكرسي الذي احتله، ولا يُعفى من تهمة استغلال السلطة، إلا إذا أثبت بأفعاله أنه يعمل للناس لا لنفسه، ويترك الكرسي مختاراً، ليفتح الباب للأكثر كفاءة، لا حين يُسقطه المرض، أو تُطيحه المؤامرة، أو يثور ضده أبناء البلد.
ومعروف أن العوام البسطاء، أنفسهم، لا ينجون من نيران من جلس على الكرسي، فمن يُحكم بهم، غالباً لا يترك خلفه سوى جراحٍ مفتوحة، وفتناً مؤجلة، وشرًّا متسلسلاً لا ينتهي حتى بعد موته، لأن لعنة الأنانية تطالهم في حياته، وتواصل طعنها لهم في مماته. كرسي الرئاسة، حين يُحتل لا يُؤتمن، لأنه إن لم يُفرَغ طوعاً للأفضل، يتحول إلى لغم، ينفجر بجميعهم، ويخلّف مزيداً من الرماد والدم والدمار، ولنا في كل من العراق وسوريا خير أمثلة، بل كل البلدان التي مر بها ربيع المنطقة، أو تلك التي لما تزل تنتظر!