إن الهدف الواحد الذي تمكن من تسجيله فتى من دولة المغرب المتصالحة مع إسرائيل نسف ثلاثة أرباع نجاحات الإسرائيليين والأمريكيين والأوربيين التي أنفقوا على تحقيقها جهودا وأموالا وحروبا متواصلة عبر عشرات السنين لإحراج الحكومات العربية، ومضايقتها، وإجبارها أخيرا على دخول بيت الطاعة اضطرارا، بحكم الحاجة السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية، أو انجرارا باسم العقلانية والواقعية والسلمية وغيرها من تبريرات العاجز المستحي من نفسه ومن أهله المجبرين على السكوت.
والهدف الواحد الذي حققه الفريق المغربي على فريق البرتغال، والذي أجرى دموع أسطورة الكرة (كرسيتيانو رولاندو)، أيقظ العصب القومي في الذات العربية، وجعل المواطن العربي، فجأة يفقد هدوءه ويغادر وقاره ويرقص، ويُقبل جاره، ويبكي فرحا، في كل مدينة وقرية عربية، وفي كل أرض حول العالم، مسلمين ومسيحيين، متدينيين وعلمانيين، كبارا وصغارا، رجالا ونساءً، بما لم يشهده أحد من قبل.
والذين هتفوا للهدف المغربي جاعلين منه انتصارا عربيا قوميا طال انتظاره على عقود من الخسارات والإحباطات والآمال التي لا تتحقق، لم يفعلوا ذلك بقصد، بل بعفوية وصدق وحماسة ودون إرادة.
وقبل الهدف المغربي وردت إلينا أخبار الملاعب القطرية (العربية) تتحدث عن أهداف سياسية عروبية من نوع آخر سجلت على السيدة الأولى، إسرائيل، لابد أن تكون قد وصلت أصدؤها إلى الإسرائيليين في فلسطين.
فبعد انتصار المنتخب المغربي على إسبانيا وقف أعضاء الفريق لأخذ صورة جماعية، ولكنهم كانوا حاملين علما لم يكن علم بلادهم بل كان علم فلسطين.
وفي لقاءاتهم مع المشجعين العرب فوجيء المراسلون الإسرائيليون القادمون لتغطية المباراة بقوة هيمنة الموضوع الفلسطيني.
وانتشرت لقطات فيديو على منصات التواصل تظهر هؤلاء المراسلين الإسرائيليين في دهشة وحيرة حين يرون مشجعين عرب يبتعدون عنهم، ويرفضون الحديث معهم في اشمئزاز.
وفي فيديو ظهر مشجع مغربي يضع العلم الفلسطيني أمام مراسل صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية. وحين قال له المراسل، "لكننا وقعنا اتفاقية سلام" أدار له ظهره وابتعد عنه بغضب.
ثم بلغَنا أن مشجعين عربا كانوا يتركون مقاعدهم في الملعب رافضين مجالسة مشجعين آخرين بعد أن اكتشفوا أنهم إسرائيليون.
بعبارة أوضح. لكأنَّ المونديال القطري جاء من أجل الاستفتاء على عروبة المواطن العربي التي لا تموت، ولا تشترى ولا تباع.
فلم تَقدر وسائل القهر والقمع والغش والخداع، جميعُها، أن تطفيء جمرها بعد سبعين عاما من التهجير والاستيطان والقتل والاعتقال والتجويع. ومؤكد أنها، بعد سبعين سنة أخرى، ستعيد الصاع إلى المعتدي ليس صاعين فقط بل عشرات.
شيء آخر. لقد تزامن هذا كله مع واقعة أخرى لا تقل خطورة عن الأولى. فقد أرسل الرئيس الصيني شي جين بينغ رسالة حارقة إلى الإسرائيليين والأمريكان والأوربيين، حول نفس القضية العادلة، حين قال في الكلمة التي ألقاها في مؤتمر قمة الرياض، أخيرا: "لا يمكن استمرار الظلم التاريخي الذي يعاني منه الفلسطينيون، ولا المساومة على الحقوق المشروعة".
إذن فالدنيا تدور. والعالم يتغير. ولكن الشيء الوحيد الذي لن يتغير اليوم، ولا غدا، ولا بعد عمر طويل، هو حق البشر في العدل والكرامة والحرية والسلام.
نعم. لقد شهد هذا الجيل العربي الحالي والذي قبله زيارة الرئيس المصري أنور السادات لإسرائيل، مفتتحا مسيرة التطبيع.
ورغم أنه استعاد سيناء بهذه الزيارة، ورغم استقباله سفارة لإسرائيل في القاهرة، إلا أن الشعب المصري ما زال صامدا لا يوافق حكومته على تطبيع، وما زال يسمي إسرائيل فلسطين المحتلة، ما زال ويرفض معاملة الإسرائيلي الزائر برفق، كما يعامل له شقيقه العربي الآخر القادم من أي بلد عربي كان.
وما زال المغربي يرفع علم فلسطين، وما زالت عروبة المواطن الخليجي العربي تظهر عند أول اختبار.
من هذا ندلف إلى داخل الموضوع. إن أي تطبيع لن يدوم إلا إذا كان بين مواطن ومواطن، وبين شعب وشعب، وليس بين حكومة وحكومة.
والدليل أن هدف كرة قدم واحداً ردّ إلى الإسرائيليين والأمريكيين والأوربيين بضاعتهم، وأفهَمهم أن أي شعب إذا أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر، كما قال شاعرنا الخالد أبو القاسم الشابي، ونحن شعب أراد الحياة، وما زال يريدها، فهل يفهمون؟