ما خلفته الثورة السورية من نتائج صادمة للقاصي والداني، دفع بأعداد كثيرة من السورين إلى الهجرة القسرية واللجوء إلى الدول الأوربية الأكثر أمناً، لا سيما أنّها أكثر قرباً من البلد الأم سوريا، قياساً بفارق الزمن الكبير مع القارة الأميركية التي تفصل عنها نحو سبع ساعات بين أوربا وأميركا، بالنسبة للولايات القريبة من المحيط الأطلسي وتمتد حتى كندا، ومنها: نيويورك، بنسلفانيا، نيوجرسي، فيرجينيا، كارولينا الشمالية والجنوبية، جورجيا، وفلوريدا، فضلاً عن الولايات التي تقع على ساحل المحيط الهادي للولايات الأميركية، وقد يصل فارق الزمن إلى نحو تسع ساعات وأكثر، وتتكون من خمس ولايات كواشنطن، أوريجون، كاليفورنيا، ألاسكا، وهاواي.. ناهيك بولايات الوسط الأميركي كآيوا، أوهايو، الينوي، إنديانا، لويزيانا، كانساس، كنتاكي، كولورادو، ميزوري، ميشيغان، مينيسوتا، ونبراسكا.
وفي هذا الإطار اتجه العديد من السوريين الزائرين والمقيمين في الولايات المتحدة الأميركية السفر إلى خارجها، والتوجه إلى مختلف دول الاتحاد الأوربي، ومن بين الدول التي كانت محط اهتمامهم ألمانيا، السويد، هولندا، النمسا، وتمثل الأخيرة إحدى الدول الأوربية التي تعد أفضلها أمناً وقرباً إلى القلب، بخلاف غيرها، حيث تتمتع بطبيعة خلاّبة ساحرة وعشق لا ينتهي، وحياة هادئة أكثر دفئاً.
إنّ الكلمات التي تتردّد على ألسنة زوّار مدينة فيينا وعشّاقها، يرافقها بريقٌ ساطعٌ في العيون، وشوقٌ هائجٌ في القلوب والأرواح… كيف لا، والمدينة أسطوريّة الجمال بكلّ ما فيها؛ بماضيها العريق وحاضرها الطموح، وبسلاستها في الموافقة والجمع بين تراثٍ عمرُهُ قرون طويلة وحاضرٍ شغوفٍ متلهّفٍ إلى المستقبل.
إنَّ زيارة العاصمة النمساوية، فيينا، كالارتحال عبر الزمن، والعيشُ فيها كالحياة في نعيمٍ دنيوي خالص. إنّ في فيينا من متعة العيش، وفنون الحياة ما يعجز الإنسان عن البقاء حياديّاً جامداً في حضرته، كلّ شيء من البنايات الأنيقة، إلى الحفلات الراقصة التقليدية، إلى ذكرى موزارت وبيتهوفن التي لا تزال تعبق بها المدينة يضفي على الحياة في فيينا بريقاً خاصّاً، وإحساساً يشبه الحلم. وفي هذا نتساءل:
بعد كل هذا السحر هل هم مقتنعون بهذه النتيجة؟! وهل أوربا تختلف عن أميركا، وبماذا تختلف؟ وما هو وجه الخلاف فيما بينهما؟ وهل هم راضون بكل هذه المعطيات؟ وبعد كل الذي حدث، وإن حصلوا على جنسية أية دولة أوربية، أو حتى جنسية الولايات المتحدة الأميركية، العملاق الاقتصادي الضخم؟ هل ينسيهم هذا حبّهم وولاءهم لبلدهم؟!
والأهم من كل ذلك: هل هم مقتنعون بالغربة أصلاً، كغربة والبعد عن الأهل والأحبّة والديار، وجلسات "الحارة" الساخنة، بأحاديثها الجانبية، وسلام المارّة، وتحية مفعمة بالحب لذلك الشيخ، ولتلك العمّة ولهاتيك الخالة، وذاك الطفل.
لا أظن أنَّ الحصول على جنسية أي بلد، يمكنها أن تلفظهم عن بلدهم، وتبعدهم عنه. ذاك البلد المفعم بالخيرات، وبالليالي الملاح الذي ترك في قلوبهم غصّة، وغصّة لها عنوانها العريض والتي تركت انطباعاً قل مثيله، لمن يعرف سورية وعاش فيها، وشرب من ماء بردى والفرات.
وعلى الرغم مما هم فيه اليوم، من بهرجة الإقامة، والتفاخر بها من قبل الغالبية من المغتربين ـ المهجرين الذين سبق أن حصلوا عليها، وممن ينتظرون، والأحاديث الجانبية التي لا ينفكُّ مجلساً محلياً في الرَّقة، أو في غيرها من المدن السورية، الحديث الرئيس عما يصفُ واقع المغتربون وأحوالهم، والحال الذي قضوه، بعد أن عانوا ما عانوا من قهر وحرمان وضياع وقت طويل من أجل الوصول الى ما يسمى بدول النعيم، مثال: ألمانيا، فرنسا، هولندا، النمسا، السويد، بريطانيا، الدنمارك، ايطاليا، اسبانيا، فنلندا، وغيرها كثير من الدول الأوربية، ناهيك بالأموال التي صرفت وخصصت لجهة السفر إلى تلك الدول، وتعرّض المغامر منهم للموت المحقّق، وفوق ذلك المعاناة التي تمخض عنها تلك المغامرة العاصفة، علاوة على تأمين المبالغ الضخمة التي تتطلب لهذه المغامرة!
وإن كانت مغامرة خاسرة، إلا أنَّ الربح فيها يظل مؤكداً في انقاذ أسر بكاملها من جحيم وعيش بائس لم يعد يطاق في سوريا. ومن خلال لقائي أعداد من هؤلاء المغامرين السوريين، فإنَّ ما سبق أن أنفقوه لقاء الوصول إلى هذه الدول من مبالغ مالية فاق الـ 13 آلاف يورو للشخص الواحد، ومنهم من دفع إلى تلك البلاد الذهبية أكثر من ذلك، بعيداً عن المعاناة التي تجاوزت الأشهر الـتسعة، قضوها بين الغابات وصعود الجبال الشاهقة، وتعرضهم للخوف والعواصف والرياح والأمطار، فضلاً عن مخاطر البحر، والموت الزؤام.
وبعد كل هذا تظل مغامرة اللاجئين السوريين والهجرة عن البلد الأم رابحة بامتياز لجهة العيش بأمان وتحسين دخلهم المادي، والتطلع إلى مستقبل أبنائهم.. والأهم من هذا وذلك العيش بأمان في ظل توافر الخدمات الرئيسة وأهمها الكهرباء، والرغيف الذي صار يُمنع بيعه للمهجّرين السورين في لبنان من قبل أصحاب الأفران، ونبذهم واستهدافهم وشتمهم لهم، بهدف الضغط عليهم وإخراجهم منه عنوة من أجل الزامهم بالتوجه إلى بلدهم الأم الذي هو الآخر يعاملهم معاملة قاسية لا تليق بالإنسان، ومصيرهم التنكيل بهم والاذلال والقتل!.