: آخر تحديث

الإطار والتيار والملا محمود الدهيمة

51
53
48

مهما اختلفت الآراء حول أسباب الوضع المزري الذي بلغته السياسة في العراق الذي تأسس بالغزو الأمريكي فإن ثلاثة أرباعها تعود لسياسة الراحل صدام حسين. 
فقد بالغ في اعتماد القسوة لحماية نظامه، إلى درجة أنه لم يعد يُميّز بين وطني عارض الحاكم ولم يعارض الوطن، وبين آخر باع نفسه ووطنه وأهله لعدو.
وتبدأ الديكتاتورية حين يصاب الحاكم بغرور القوة والنرجسية، فيظن نفسه كامل الأوصاف لا يخطيء أبدا، ثم يصل به الوهم إلى أن يجعل شخصه الوطن والشرفَ والشعب والدين، ومَن يخالفه، كائنا من كان، خارجاً على الوطن والشرف والشعب الدين.
ولعل أسوأ مظاهر ديكتاتورية صدام حسين هو القتل العاجل، وأحيانا بلا محاكمة، ودون السماح لضحيةٍ بكلام، وشمول أقارب المعاقب من الدرجات الأولى والثانية والثالثة. وكثيرا ما أعدم رجالا وطنيين تشهد لهم تواريخهم بالفضيلة والشهامة والشجاعة وخدمة الوطن، فقط لأن أحد جواسيس مخابراته سجل له حديثا ينتقد فيه الرئيس، أو يعترض على كلمة له، أو على موقف أو قرار. ولم يفلت من غضبه أقرب أقاربه إليه، وحكاية شهيد الغضب، صهره، حسين كامل، شهادة ثابتة، وذلك لأنه خوفُه المَرَضي من المعارضة جعله يعاقب كل من يشك في ولائه، مجرد شك، من أية طائفة أو قومية أو دين أو مدينة أو عشيرة كان. ألم يقل إنه يقرأ العيون؟. 
ومن نتاج تلك القسوة المفرطة أنَّ ثلاثة أرباع الشيعة العرب العراقيين، تاريخيا، كانوا لا يحبون إيران، ولا يثقون بحكامها، فجعلهم يحالفون إيران، على مضض.
والشيء نفسه يقال عن الكرد. فأفواجٌ واسعة منهم كانت تعارض التمرد على الدولة ومؤمنة بالهوية الوطنية العراقية، جعلها عنف النظام ضد الطالح والصالح منهم تناصبه العداء وتحمل السلاح لحربه وتتآمر مع أعدائه لإسقاطه. 
وهذا، تحديدا، ما حرمه ولاء ثلاثة أرباع الشعب العراقي، وجعَل كثيرين من أجهزة أمنه وحرسه الخاص لا ينخرطون في الدفاع عنه وقت فاجعة الغزو الأمريكي 2003. وهو، أيضا، ما وضع إيران ومليشياتها على رأس الوليمة. وفي هذا الجزء من المقالة تذكرت هذه الحكاية. 
فقد كان الملا محمود الدهيمة إمامَ مسجد صغير في مدينة تكريت، في الستينيات من القرن الماضي. وكان طويلَ القامة، عريض المنكبين، عالي الجبين، تجعل منه عمامتُه البيضاء الطويلة عملاقا وحيدا في مدينة أغلبُ رجالها قصار القامة. 
كنتُ يافعا، وكان لي شغفٌ بمراقبة الملا وهو يتخذ، كل صباح، مقعده الأمامي الدائم في إحدى مقاهي سوق تكريت الكبير، يراقب الرائح والغادي، والابتسامة الخارجة من قلبه ترتسم على وجهه البشوش. والذي أثار فضولي أنه كان يهب واقفا وينحني، عشرات المرات، دون كلل ولا ملل، للرد على أي عابر سبيل يسلم عليه، وهو يقول بصوت مسموع: أهلا يا أستاذ. 
سألته: ألا تتعب من المجاملات والتحيات والسلامات؟ 
قال: لكل منا هواية، وهوايتي رؤية فرح العيون وبـِشر الوجوه، وهذا واجب رجل الدين، فهو حمامة سلام ورسول محبة وزارع فرح بين الناس. 
قلت: هل تساوي، بحبك هذا، بين جميع الناس دون تمييز؟ 
قال: نعم، والله شاهد علي. 
قلت: حاكما أو محكوما؟
قال: نعم، وأزيد المحكوم مودة، لأنه أحوج إليها من الحاكم.
قلت: حتى لو كان من غير قومك ودينك وعشيرتك وطائفتك؟ 
قال: "إن الإنسان لديّ بشخصه. فإن كان مسكونا بالفساد فسأدعو له بالعافية، وإن كان معافىً في داخله وسريرته فسأدعو له بدوام العافية. أما لونه ودينه وطائفته وأهله وعشيرته وأمواله فلا تزيد وزنـَه لديّ ولا تـُنقصه. 
فحين يولد الواحد منا يكون كتابا أبيض ليس في نفسه شيء من حقد أو عداوة. فإذا ساقه حظُّه العاثر إلى رجل دين جاهل ولئيم فسوف يزرع فيه الكراهية والحقد، ويشعل في قلبه نار العصبية الدينية أو المذهبية، فيصبح بؤرة للجحيم. وإذا وفقه الله ورماه بين يدي رجل دين ذي بصر وبصيرة، ساع ٍ إلى الخير والمحبة والسلام، فسوف يملأ نفسه وقلبه بالخير، وباحترام الغير مهما كان دينه وعقيدته وطائفته. 
المشكلة أن كلّاً منا يفسر كلام الله على مزاجه، وعلى مقاس مصالحه، وحسب هواه، ويفهم الخير والشر كما يريد.
وحين تُقلّب صفحات التاريخ ستجد أن جميع الحكام الجلادين المجانين كانوا يجدون في كلام الله، وفي القوانين والدساتير، ما يجعل أسودهم أبيض، وظلمهم عدلا، وسرقاتهم شطارة. 
بهذه الكلمات القليلة لخص هذا المعمم الفيلسوف الراحل محمود الدهيمة مواصفات الظالم والعادل من الحكام، والصادق والمنافق من رجال الدين.
ولكنه، على صراحته الفاقعة هذه، كافأه المخبرون السرّيون بمنعه من الخطابة، وأضافوه إلى قائمة أعداء النظام.
والوجود الفاعل الكبير، اليوم، لإيران في العراق، تحت عمائم حلفائها قادة الأحزاب والفصائل المسلحة الطائفية، دليل على صحة مباديء هذا الشيخ الجليل، وتعبيرٌ عن الخلط البيّن بين النور والظلام، وبين الحق والباطل، وبين الخير والشر.    
وما يدور في بغداد، هذه الأيام، يترجم كلام الملا محمود الدهيمة. فالإطاريُّ الذي  ظل سنين طويلة يدوس بحذائه الطائفي الانتهازي العميل على الديمقراطية والدستور، وعلى الدولة ومؤسساتها وقوانينها، يُجيش أتباعه، اليوم، بعشرات الآلاف ليحاصر بهم الصدريين، دفاعا عن الديمقراطية والقانون، ولحماية الدولة ومؤسساتها، ومصالح الشعب والوطن والدين.
بالمقابل يخرج عليه مقتدى بأعوانه الصدريين، وبعشرات الآلاف أيضا، لاحتلال مؤسسات الدولة، وتعطيل عملها، لإرغام إخوته الإطاريين على الرضوخ، وعلى تنصيه زعيما أوحد، وقائدا ضرورة يأمر، وحده، ويطاع. ودفاعا، أيضا، عن الديمقراطية والقانون، ولحماية الدولة ومؤسساتها ومصالح الشعب والوطن والدين. وهم، كلهم، من طينة واحدة. 
رحمة الله على روحك الطاهرة، ملاّ محمود الدهيمة، وجعَل مثواك الجنة، اللهم آمين.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي