: آخر تحديث

نموذج من بيدر المغالطات في وسائل التواصل

68
72
44

إذا كانت الأغلاط الأساسية في منطق الحوار والجدل أثناء المناقشات التي كان يُشاهدها المفكر المصري عادل مصطفى في الفضائيات ومختلف منصات وسائل الإعلام دفعته إلى كتابة فصول "المغالطات المنطقية"، فإن الواقع الحالي يدفعنا كمتابعي وسائل التواصل الاجتماعي للتمعن كل حين في منتجات مَن يكتب أو يُعلِّق على المنشورات تعبيراً عن وجهة نظره هنا وهناك في هذا الفضاء التقني الرحب، مع رغبة العودة من حين لآخر إلى تلك المغالطات ليس بالضرورة من أجل التسلح بها  لكي نتصدى لما يُنشر في السماء الإلكتروني، إنما على الأقل لكيلا ننجرف مع الحشدِ في وسائل التواصل التقني كما يحدث مع الكثير من الأكاديميين وأصحاب الشهادات العليا، الذين تغلب عليهم العاطفة حين يشعر واحدهم بأن دينه أو قومه أو حزبه يتعرض للعدوان الشرس من قِبل أعداءٍ معينين، وحيث أنهم لا يجدون أنفسهم وقتذاك إلاَّ وهم منسابين مع كلمات أناسٍ قد يكونوا ودودين، طيبين أو غيورين، ولكنهم بلا أيّ مصداقية بخصوص الذي ينشرونه من معلوماتٍ مغلوطة وهي غالباً ما تكون خارج مدار الفائدة، إذ أن ذاك الذي للتوِ تعلم القراءة والكتابة قد تراه يجر وراءه في السماء الرقمي صاحب الشهادة العليا إلى المكان الذي يريده ذلك المغفل المستنفر، هذا بدلاً من أن يقوم الأكاديمي بتصحيح مسار ذلك الشخص أو الكروب أو دفعه/هم للتخلي عن تصوره/هم الخاطئ حيال الموضوع المطروح.

إذ مع ظاهرة السماح لأي شخص لا على التعيين بأن يدلي برأيه ببضعة عبارات على المواد في المواقع الإلكترونية، أو عبرَ تعليقاتٍ عابرة على المنشورات في وسائل التواصل الاجتماعي معناه إعطائه فرصة التأثير على الغير وتحويل أنظار الجمهور عن القضية الرئيسية، وإلهاء الآخرين بطرق عدة تدعوهم إلى ترك الأصول الحية وتتبع أثر الفروع اليابسة، وربما وصل بهم الأمر من خلال اجتماعٍ عددٍ كبيرٍ منهم إضافةً إلى استخدام وسائل التضليل المحكم والمتواصل إلى جعل المستمع أو القارئ ينسى اللب برمته ويتمسك بكامل قواه العاطفية بالقشور، كما هو الحال مع بعض من يخاطبون الغرائز بدل العقول في الأزمات التي تعصف بأناس بقعة جغرافية ما.

إذ يذكر المفكر المصري في كتابه الآنف الذكر أن من بين سمات الذي يلجأ إلى مغالطة "سمكة الرنجة الحمراء" هو القيام بإدخال تفصيلات غير هامة على الموضوع بهدف تحويل الانتباه عن المسألة الرئيسية، أو بإلقاء موضوع لافت أو مثير للانفعالات وإن لم يكن ذي صلة بالموضوع المعني ولا يشبهه إلاَّ شبهاً سطحياً، وذلك ليقذف بالخصم خارج مضمار الحديث؛ وحيث دأب هذا الصنف من البشر على إثارة مشاعر المستمعين، ولفت انتباههم عبر طرح مسألة لها حضورها القوي وتأثيرها المباشر على المستمعين أو القراء بعيداً عن الخوض في صلب الموضوع، ومتقنو هذه المغالطة يتفنَّنون في أخذ ضحاياهم من المستمعين أو القراء عبر أزقة جانبية حتى ينسوا تماماً أمر الأوتوستراد الرئيسي.

ومن خلال متابعتنا لبعض ما يُكتب في وسائل التواصل الاجتماعي في الفترة الماضية، رأينا بأن مستخدمي المغالطات لهم قدرة  كبيرة على حجب الحقيقي وإظهار السطحي أو المزيّف، لذا وددتُ الوقوف عند حدثٍ متعلق بالدراسات الجامعية، ألا وهو حفل تخرج طلبة الجامعة الأمريكية في إقليم كردستان الذي جرت مراسيمه في الشهر الماضي، وذلك بعدما تأملت بعض التعليقات التي أعقبت حفل التخرج والتي نحت الحدث الحقيقي جانباً وأدارت وجهة الجمهور إلى زاويةٍ لا أهمية لها مقارنةً بالحدث ككل.

وحيث لاحظنا بأن "مغالطة الرنجة الحمراء" كانت واضحة لدى مكتوبات طائفة كبيرة من الممتعضين من تقدُّم إقليم كردستان رغم ظروفه القاهرة، وكذلك كان حال مَن لا ينظرون بعين الود أصلاً لتجربة الإقليم، بالرغم من أن تجربة الإقليم وسط الحيتان في الجوار، ووسط الطحالب والأشنيات في الداخل العراقي، هي أشبه بزهرة اللوتس وسط الأوحال، هذا سواء كنا معارضين لاسلوب الحكم في الإقليم أم مؤيدين له، وذلك إذا ما كنا منطقيين ونظرنا بعين الإنصاف إلى تجربة الإقليم مع الإمكانيات الشحيحة مقارنةً بسلطة بغداد صاحبة حصة الأسد من الثروات الباطنية في العراق، وحيث أن الإقليم حقق "بـ 5% فقط من إيرادات العراق ما عجزت الحكومة العراقية عن تحقيقه بـ 95% من إيرادات البلد"!!

إذ أن الذين عملوا جهدهم لتحويل الأنظار إلى أماكن أخرى في حفلتي التخرج في دهوك والسليمانية وضعوا كل ما يتعلق بأهمية العلم والمعرفة وصناعة القادة وآليات تأهيل جيل كامل قادر على إحداث التغيير المنشود في المجتمع إضافة إلى قدرته على تبوؤ قيادة المنطقة في المستقبل، تفرغوا للحديث عن مطرب تركي دُعي لإحياء حفلٍ فني بتلك المناسبة، هذا بدلاً من أن يلجأ ذلك الفريق إلى المقارنة ليس فقط بين وضع بغداد وأربيل، إنما كذلك الأمر إلى اللجوء للمقارنة بين ما بلغته الأحزاب السياسية في الإقليم وما هو عليه حال باقي تنظيمات مدن العراق، وكذلك الأمر مع وضع حزب العمال الكردستاني الذي بدلاً من تشجيع العلم والمعرفة عمل على تخريج حشود بشرية لم تبلغ أي مستوى متقدم من سلم التطور والحضارة بالرغم من توفر الإمكانيات المادية والبشرية الكبيرة، فلم يُقدِّم  الحزب المذكور إلى الآن لا خطاب إعلامي قابل للمتابعة، ولا استطاع أن يُقدم ولو مجلة علمية أو فكرية أو أدبية أو سياسية أو عسكرية رصينة، إنما بالضد من ذلك فعمل طوال السنوات الماضية على تضييق أفق أنصاره وتجهيل المجتمع ككل، واكتفى بتحفيظ حشود المؤيدين بضعة جُمل تمجِّد الخاقان الأعظم كما كان حال الحشود البشرية في العصور الوسطى.

وبالمقارنة بين خطاب بعض الأحزاب الدينية في العراق والتي يطيب لها إرجاع المواطن العراقي إلى زمن صراعات أنصار الإمام علي بن أبي طالب وأتباع معاوية، من خلال التخندق والاصطفاف والتحشيد الدائم بغية التحكم بالجمهور وحرمان الفرد من نعمة التفكير خارج القوالب الجاهزة لتلك التنظيمات، وكذلك الأمر الخطاب الخشبي لحزب العمال الكردستاني الذي ما يزال يراوح في مكانه منذ ما يزيد عن أربعين سنة، سأورد مقتطفين لكلمتي رئيس الإقليم نجيرفان البارزاني ورئيس حكومة الإقليم مسرور البارزاني ليقوم القارئ بالمقارنة بين محتوى خطابهم وخطاب الجهات التي ذكرناها منذ قليل.

وحيث قال رئيس الإقليم نجيرفان البارزاني في كلمته: أيها الخريجون الأحبة خير رأسمالكم، وأكبر قوتكم، هو العلوم والمعارف والتخصصات التي كسبتموها في المراحل الدراسية عامة وفي الدراسة الجامعية بصورة خاصة، وهذا أعظم استثمار في حياتكم، وخير استثمار استثمرته أمهاتكم وآباؤكم هو أنهم قدموا كل ما في وسعهم وساندوكم ودعموكم لتكملوا دراستكم بنجاح؛ ومن اليوم فصاعداً، يأتي دوركم في رد الجميل لهم؛ وستردون لهم الجميل بخدمة بلدكم وتطوير بلدكم، إن شعبكم وبلدكم يحتاجون إليكم؛ فأسعدوا قلوبهم وقلوبنا والجميع بنجاحاتكم وأعمالكم وخدماتكم؛ فمستقبل هذا البلد في أيديكم.

فيما ذكر رئيس الحكومة مسرور البارزاني في ختام كلمته عن العلم قائلاً: استمروا في التعلم والنمو، فالتعليم لا ينتهي بشهادة البكالوريوس، إنه عملية تستمر مدى الحياة؛  مقدماً بهذا الخصوص بعض النصائح لخريجي دورة 2022 وحيث ركز على جملٍ أراد فيها تمثل مضامينها من قبل الطلبة والعمل بها في حياتهم اليومية وممارستها، وليس فقط حفظها عن ظهر قلب كما درجت العادة لدى طائفة كبيرة من الساسة والمثقفين في بلادنا، فقال: تمسكوا بأعلى المعايير الأخلاقية، تذكروا دائماً وطنكم وهويتكم، العطاء للوطن عندما تسنح الظروف بذلك، كافحوا من أجل الازدهار الاقتصادي هنا في الوطن وخارجه، احترموا الأرض؛ ضعوا في اعتباركم الاستدامة وقيمة الكوكب الذي وهبه الله، طبقوا مبادئ الديمقراطية والعدالة والمساواة في حياتكم.

ومع ذكرنا لجزءٍ يسير من الأفكار القيّمة التي وردت في الكلمتين، بتصورنا أن لجوء الممتعضين من حفل التخرج إلى آلية المغالطات لتعميم وجهات نظرهم، وإشغال الجمهور بالثانويات وحرمانه من التمعن بما قيل ورؤية الصورة الكاملة للحدث من خلال عملية التشويش العمد، يذكرنا بآليات عمل الإنسان الفاشل، ذلك الإنسان الذي لا يكافح ليصل، ولا يُتعب نفسه من أجل نجاحٍ فيه الخير له وللناس والبلد بناءً على جده ومثابرته، إنما بالعكس قد يخطط ليل نهار لعرقلة مسار الشخص المتقدم عليه، ويحارب الناجح بكل ما أوتي من المكائد بما أنه غير قادر على اللحاق به أو مجاراته أو العمل بجانبه كتفاً بكتف، ولا يسعى لتطهير نفسه من الأدران الملتصقة بجسده وتلك المحيقة بعقله، إنما يعمل بكل طاقته لمعاداة صاحب السيرة الحسنة والمخلص لعمله وهدفه وقضيته.

على كل حال لقد ذكرنا في الأعلى مغالطة واحدة  فقط من بين العديد منها، وحيث أن حشود التضليل في وسائل التواصل الاجتماعي من الممكن أن تلجأ لكل وسائل الخداع والمناورة لقاء تبرير موقف أو تحويل مسار القارئ أو المستمع، وقد يُلاحظ المتابع المدقّق في يومه الواحد أكثر من مغالطة مستخدمة من قبل هذا الفريق أو ذاك، وخاصةً ظاهرة التعميم المتسرع (التي فلح بها شعوب الدول الثلاثة سورية، لبنان وتركيا)، وكذلك الأمر الإحراج الزائف، ومغالطة مهاجمة "رجل القش" التي كانت مستخدمة في العصور الوسطى، إضافةً إلى مغالطات الشخصنة، الاحتكام إلى العامة والاحتكام إلى الجهل وهي ممارسة من قِبل السوريين على نطاقٍ كبير جداً تجاه بعضهم البعض، وأخيراً مغالطة الاحتكام إلى القوة من خلال اللجوء إلى التهديد والوعيد من أجل إثبات فكرة لا صلة لها بالمخاوف التي يتم الترويج لها أو تضخيمها، ظناً من الجهة المغالطة أن القوة تصنع الحق، وهو ما تفعله الوسائل الإعلامية المحسوبة على الدولة في تركيا منذ سنوات مع قوات "قسد" الموجودة في الداخل السوري، وذلك بحجة أن تلك القوات تهدِّد أمنها القومي الذي في الواقع وبناءً على مقارنة القوة والاستطاعة والنفوذ فلا تلك القوات ولا مجموع الدول المحيطة بتركيا لديها الجرأة على إلحاق أي أذى بتركيا، أو تشكيل أي تهديدٍ لها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي