: آخر تحديث

بلد خربان

72
88
61

 ربما يستغرب البعض من طريقة أسلوب هذه المقالة؛ جَمع المُتضادات في التوافقات، وحساب الأحداث بمنطق التفاضل والتراكم، وإحصاء ميل المنحنيات السياسية ومعدل التخريب الذي جرى للوطن. لن يكون قلمي معبّراً عن النفس هذه المرّة، ولن أكون جزاراً لقطع الأحداث كما فعلتها سابقاً، بل سأترك القارئ للأحداث وتراكمات الأفعال لاكتشاف المادة "الخربانة" لبناء أساس الدولة التي انهارت فوق رؤوسنا، وجعلت الوطن ديكورا مشوها بألوانه الخادعة، وتسمياته الرنانة الجوفاء. خداع بصري كاذب بالديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة.

من فمهم أدينهم، قول مأثور، يختصر مشهد العراق السياسي بمنطق "شهد شاهد من أهلها". وسأختصر الشهادة بالإثبات بأسلوب الدليل من الفعل. يقول محمود المشهداني أحد بناة الدولة الفاشلة: نحن مقاولو "تفليش" لهدم الدولة العراقية، وقتلنا وأقصينا من يقول لنا لا، وقتلنا العلماء والطيارين، وهجّرنا البشر. جئنا لننتقم بروح الحقد والتعصب.

بينما زميله في العملية السياسية هادي العامري يقدم اعتذاره للشعب بعد "خراب البصرة": ينبغي الاعتراف بأخطائنا وتقصيرنا بحق شعبنا حيث جعلناه يتلوّع من الجوع والفقر. أنا اعتذر لهذ الشعب عن كل قصور وتقصير. وانا اعترف بأنني أول من قصر بحق هذا الشعب. واطلب من شعبي المسامحة عما جرى منا".

أما نوري المالكي صاحب المقولة الشهيرة "ما نطيها؟!" فأنه يعلنها صراحة عام 2015 "بفشل الطبقة السياسية، وضرورة أن ينبغي ألا يكون لها دور في رسم خريطة العملية السياسية في العراق، والأهم أن يبرز جيل جديد يأخذ بنظر الاعتبار الأخطاء التي ارتكبت". 

هناك صُوّر أخرى مظلمة لبلد تَفوّق بالمضحكات والنوادر والعجائب، مالم يحققه بلد آخر على هذا الكون، لافي جزر الواق واق، ولا في أدغال أفريقيا في توزيع الرتب العسكرية و"نظام الدمج" وتوزيع المناصب والأموال. ولأنني أثق بصدق وحرفية ضياء الخيون وشهاداته التلفازية، ما يجعلني اختصر لكم شهاداته للتاريخ. فما نسمعه ليس نكتة افتراضية، ولامزاح خيالي، ولا حلم مزعج نستيقظ بأحداثه المرعبة.

يقول الخيون: كان هناك شخص في حماية وزارة المالية برتبة شرطي عام 2008 دخل علىّ مرة وهو برتبة "فريق"، وقد نهرته لأنني كنت أظنه يلبس الرتبة من أجل المزاح والاستهزاء، لكنني عرفت منه أنها رتبة حقيقيّة ورسميّة رشحته بعض الأحزاب. وبعد شهر أصبح مديراً عاما للخدمات المصرفية في الوزارة. وهناك "جايجي" عند باقر جبر الزبيدي وزير الداخلية الأسبق أصبح برتبة "عقيد". وهناك معمم برتبة "فريق" وآخر برتبة "لواء". وهناك حارس في أحد المصارف العراقية كان يمتلك "11" مليار دينار عراقي، حيث أصبح بعد ذلك "لواء" طياّر. ويوجد عامل آخر كان يعمل بالوزارة، حيث أصبح "حماّل" في الكاظمية، ثم عيّن في احدى الدوائر المهمة، بعد ذلك أصبح مفتشاً عاماً في وزارة المالية. 

والقصص غريبة التصديق لن تنتهي بمتواليات الزمن؛ فما قيل عن لسان شهود الأثبات غَيضّ من فيض، وما خفي كان أعظم! وهو يؤكد أننا نعيش في دولة ليس لها سيادة وأقليم وشعب وقانون، إنما حارة تجمع "حراميّة" السلطة والمال، و"هتليّة" آخر زمن، وسراديب سرية للعميل والأجنبي. 

وهذه الحارة ليس فيها شعب، إنما يسكنها مجموعة من مافيا عائلية وحزبية غارقة بالفساد وجرائم القتل والخطف لتأسيس صنع جمهورية الخراب، وصناعة الترهات السياسية. وهي خارج تغطية الوطنية والجغرافية العراقية، وبيئة ملوثة لا تنتج سوى الموت، ولا يمكن لها أن تكون منتزهاً لأفكار المواطنة والديمقراطية والتحديث والتمدن. 

لقد سحقوا كرامة الشعب بين الأمم، وأطفأوا وهج العراق الذي كان ساطعا في الكون؛ به يبتدئ وبه ينتهي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في