كثر الكلام في السنوات الاخيرة عن ظهور اسواق ومزادات وعلوات في الحياة السياسية العراقية. هي شبيهة بسوق مريدي وعلوة جميلة وبورصة شارع الكفاح، لكنها تختلف في الوظائف والمعاني. القاسم المشترك بينهما الأسرار الخفية والصفقات المشبوهة والفساد الآدمي وبيع الذمم. ومع ذلك فالفرق كبير بين علوة الخضروات وعلوة السياسيين؛ الأولى تمنحنا عيش البقاء، والثانية تمنحنا الموت والحزن واليأس من الحياة.
صحيح إن من يقرأ التاريخ لا يدخل اليأس إلى قلبه أبداً. سوف يرى الدنيا أياماً يداولها الله بين الناس، الأغنياء يصبحون فقراء، والفقراء ينقلبون أغنياء. وضعفاء الأمس أقوياء اليوم. وحكام الأمس مشردو اليوم، والقضاة متهمون، والغالبون مغلوبون، والفلك دوار والحياة لا تقف، والحوادث لا تكف عن الجريان، والناس يتبادلون الكراسي.
لا حزن يستمر ولا فرح يدوم. لكن تاريخ العراق اليوم فيه من النوادر ما يجعل المرء يلعن ديمقراطية اللصوص، ويضحك على ما بعض مآثر الاجداد (بعد الضيق يأتي الفرج) رغم عجاف السنوات، وعذابات الزمن وأحزانه، وفقر الحال، وضياع الأنسان بين بحث عن سكن يعيش فيه، وبحث عن وطن في وطن!
سأختصر المشهد الدرامي الحزين. مثلما تأسست مافيات سياسية للعملية السياسية، وظهور تماسيح مال تبتلع الحرام، وتخرّب الاقتصاد وتقتله، ويسيطر الدجالون وكهنة السياسة والدين على الدولة المريضة. اكتشفنا فجأة أننا أمام جيش من المستشارين تختبئ في معاقل قصور الرئاسات الثلاث جاؤوا من كل حدب وصوب ينسلون من سلالات هجينية متفرقة لا يجمعهم رابط إلا انهم من قوم يأجوج ومأجوج، لاياتون على شيء إلا ودمروه، ولا يتكلمون إلا شهادة زور ونفاق. تحسبهم "أيقاظا وهم رقود “، آذانهم مغلقة ومعطلة، وعيونهم مصابة بالرمد، لكنهم بالحق كارهون، وبالكلام المعسول معجبون، وبالتمليق بارعون!
لا اعتراض ولا حسد على وجود المستشار في بلادنا إذا كان مؤهلا في خبرته وتخصصه ويقدم نصيحة علمية صحيحة. لأن المستشار عادة ما يكون خبيرا أو محترفا متمرسا في مجال معين، ولديه معرفة واسعة، وأفق مستقبلي، ومبدع ومتجدد في نوع المشورة وأسلوبها، وملبي للواقع ومتغيراته، والأهم في المستشار أن يصنع السيناريوهات والبدائل، ويقدم المعلومات الصحيحة بدون زيف وتمليق.
المستشار وظيفة علمية تخصصية وليست بابا للارتزاق والنفي السياسي أو موطنا للأقرباء والأصدقاء، وبؤرة للفاشلين ومعوقي العقل. لأن ما يحدث لوظيفة المستشار في العراق هو نوع من الدمار الوظيفي، واقتلاع للتخصص والمهارات، بل هو من ثوابت تقاليد نظام المحاصصة، والمزايدات الانتخابية، والمحاباة بين الكتل. هي براءة اختراع عراقي بامتياز!
المستشار العراقي عندنا اليوم هو أما وزيرا ترك وزارته نتيجة الفشل أو الفساد، وأما برلمانيا منبوذا من الشعب لم يحقق الأصوات المطلوبة، أو عابر سبيل تائه يبحث عن وظيفة لأنه من أصحاب المواهب المتعددة؛ لص سارق، وعسكري دمج، ومتزلف بألوان الحياة، ومنافق سياسة بالجينات، ومتخلف في الدراسة أو مزور شهادات.
بل هناك تقليعات حكومية وحزبية جديدة في اختيار المستشار، وآخرها وظيفة مستشار تلفزيوني أو إعلامي. واقصد هنا اختيار الوجوه التلفزيونية من المحللين "الاستراتيجيين" الذين ظهروا بالصدفة بعد عام 2003 لتكون أبواقا إعلامية فقط لتحسين الصورة القبيحة للرؤساء وقادة الأحزاب وتجميلها على طريقة "البوتكس" و"الفلر". هناك تسابق بينهم للظفر بالوظيفة الجديدة من خلال التزلف والتملق بمهانة إلى القادة. اعرف الكثير منهم كانوا يصدعون رؤوسنا ليل نهار بالنقد، ويقدمون أنفسهم حماة للشعب والوطن، لكنهم فجأة أصبحوا بعد لقب "المستشار" "دلالون" في الحكومة والأحزاب!
الكل من المستشارين يعيش بطالة مقنعة، لكن جيوبهم مملوءة بالرواتب والامتيازات، يعيشون في مكاتب ضخمة من خلفهم الصور القبيحة والأعلام، ويقتادون على موائد الرؤساء، ويتفاخرون كالطواويس أمام الشاشات كأنهم من غير زمانهم. والأدهى أنهم يتقاعدون ومعهم ملاعق الذهب، ورواتب المال الحرام!
سأوجز قصة براعة اختراع المستشار المبجل في حياتنا السياسية بعد عام 2003. فهو وجد لسد النقص في توزيع المناصب الحصص الطائفية، وأحداث التوازن السياسي في العملية السياسية، وترضية لمن يزعل أو يشاكس أو يتمرد. ومنذ عام 2005 إلى عام 2018 وصل عدد المستشارين في الدولة العراقية بالآف وليس بالمئات في الرئاسات الثلاث والوزارات والمؤسسات، حتى لقبت بدولة المستشارين. وربما كان البعض محقا من باب التندر عندما ارجعوا أسباب تخلف العراق وانهياره السياسي والاقتصادي والتعليمي لكثرة عدد المستشارين، وكثرة الاجتهاد المبني على الخطأ والخطيئة!
بدأ الفساد يدب أولا في الرئاسات الثلاث بما يتعلق بتعيين المستشارين، ليفتح شهوة الوزارات والمؤسسات والنوادي والمنتديات والأحزاب والمليشيات لهذا الأمر. فأصبح المستشارون يتزاحمون أفواجا على أبواب رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء ورئاسة البرلمان. فصار تقليدا وظيفيا، مثلما أصبح حلا لمشكلة العاطلين والفاشلين والأبناء والأقربون. حتى تحولت رئاسة الجمهورية في أحد الدورات إلى بيت سعيد لثلاثة أخوات تم تعينهم مستشارات لوالدهم الرئيس.
والقصة لم تنتهي، فالرئيس الحالي له 3 مستشارين من النواب السابقين الذين لم يحالفهم الحظ في الانتخابات البرلمانية الماضية عام 2018 وهم من جماعة أياد علاوي ونوري المالكي. ورئيس البرلمان له عشرات المستشارون بمسميات مختلفة، منهم أساسيون وبعضهم فخريون. وكذلك الحال لرئاسة الوزراء الذين تزدحم بهم المكاتب، جلهم في التسميات فقط، وقليل منهم من يعطي مشورة صحيحة غير صالحة لطبيعة الحكم ونظامه السياسي الفوضوي.
لا جدال إن هناك كارثة صنعها النظام السياسي للبلد، وتدمير ممنهج للحياة العراقية. حيث "زاد الطين بله" أن "علوّة " المستشارين مخازنها مستهلكة ومتعفنة زاخرة بأنواع البضائع الفاسدة؛ تبيع الكلام المعسول المنتهي صلاحيته بالتاريخ والوقائع، وتصنع الخراب، وتشوه الحقائق بلسانين "كذب المستشارون ولو صدقوا"، وتنهل من المستنقعات الآسنة مآسي الواقع المزيف، وتقدم لنا "حدودات " من صنع الخيال. تبشر بالآمال الخادعة المزيفة بالألفاظ المثالية؛ يثرثرون بالباطل في جنة الأرض بينما الشعب الصابر التعيس يتعذب في النار!