بشرى ولعنة؛ بشرى حكومية، ولعنة شعبية. مشتركات متناقضة في العطاء والنهب واللصوصية. بشرى في إعلان مكرمة "100" ألف دينار لشهر واحد فقط، وكأنها نصر مبين للحكومة، وفتح لأسوار القسطنطينية. مكرمة جديدة تضاف إلى الطحين الفاسد والرز العفن والدجاجة المجمدّة والفاصوليا المسروقة. متتاليات من المكرمات التي لا يمكن أن تفارق شعبنا المقهور منذ سنوات لتكون جزء من حقوقه وجيناته وخلاياه العقلية والهضمية.
شيء محزن أن يكون هذا الشعب تحت الفقر والجوع والحاجة بعد سنوات من ضجيج "الديمقراطية" و"العدالة"، وفي ظل ميزانيات ضخمة، وإيرادات خيالية، وصلت في شهر شباط الماضي إلى 8,5 مليار دولار (وزارة النفط)، وربما تصل إيراداته أضعاف هذا المبلغ بكثير. ومع ذلك يستيقظ صباحا ليجد أمامه مكرمة حكومية بمبلغ "68" دولار من باب الفضل والكرّم والمكرّمَة. ومعها حصة تموينية معوّقة ومنهوبة كل شهرين!
بلد خربان رأسه عفّن برائحة كريهة من دهن عود قذارة اللصوص، وسياسي الأحزاب، وقرّاء الشعوذة والخرافات الدينية. بلد يعيش داخل أعاصير سياسية دائمة تتحرك بمفاتيح الأجنبي، وموجات اقتصادية مليئة بالأزمات، وفنون قنص الأموال التي لها مبازل سرية لتصريفها وتصفيتها وتوزيعها.
يشعر المرء أحيانا بأن ما يحدث لهذا البلد هو شبيه بسياسة "حافة الهاوية". حيث تَصعيد الأزمات باستمرار ودفعها إلى الواجهة، مع أيهام الشعب بأنه في حالة خطر دائم بهدف أضعاف معنوياته وقبوله بالأمر الواقع.
مازال البعض يعطي آمالا خادعة لمستقبل مشرق بالإصلاح والتغيير، والآخر من البشر يسّوق لنا بأن حال الشعب بخير لأنه يأكل الشكولاتة الأجنبية، ويسافر إلى كل الدنيا، ويتسوق من المولات الكبيرة التي بنيت من المال الحرام، ويأكل في أفخر مطاعم الكرادة والجادرية والمنصور، ويجادلك من باب المقارنة بين راتب الحكومة "الديمقراطية" وراتب الحكومة " الديكتاتورية “، دون حساب مستوى المعيشة وقيمة الدولار وحجم البطاقة التموينية. بل يعلن لك قائمة طويلة من الإيجابيات التي تحققت في الزمن الجديد.
والأمر لا يبدو لي غريبا، على الأقل، فيما يُقال ويسوّق، لأن الذي يده في النار ليس كالذي يده في الماء، ويسرق المليارات ليس كمن يعيش على الحصة التموينية، ولديه حسابات مصرفيّة في الخارج ليس مثل المواطن الذي لا يستطيع مقاومة العيش إلا بالاستدانة من القريب والبعيد، والذي يسكن في جزر النخلة والمالديف واليونان وسواحل البحر الأسود والأبيض، ليس مثل الذي يعيش في العشوائيات وبيوت الصفيح والطين. والذي يلهو في الحانات وصالات القمار والمنتجعات ، ليس كمن يلهو مع "بسطات" الفقراء في الشوارع والحارات. ليس ما يقال حقيقة، و"ليس كل ما يَلمع ذَهَبا".
ما عاد شيء يلمعُ في العراق. فقد اختفت الفرحة على الوجوه، وتوشحت الأيام بالظلمة والسواد، وانتشرت قبور الحاضر، وأغلقت أبواب المستقبل. فالفقر يزحف على خريطة البشر إلى 40% من السكان، وهناك 15 مليون عراقي أو أكثر لا يقرأ ولا يكتب، ومدارس متهاوية تغرق في الأوحال، وأطفال يفترشون الأرض بلا مقاعد وكُتب. أتذكر أيام طفولتنا في المدارس نشرب الحليب وحبوب "دهن السمك" رغم ميزانية العراق آنذاك لا تساوي واردات شهر واحد في الوقت الحاضر، ولم اسمع يوما من يقول لي تفضل أنها مكرمة ملكيّة من جلالة الملك المعظم.
ومع كل هذه المآسي والكوارث، هناك بلد مظلم بكهرباء الحياة، والعباد عطشى بالماء النقي، والمخدرات تلعب بعقول الشباب الحلوين، والمقاهي مملوءة بالعاطلين من كل صوب وحدب، والمستشفيات في غرفة الإنعاش تحتضر، والجواز العراقي في آخر قوائم بلدان الفقر والتخلف، ثم يأتيك غبي أحمق يتباهى بمنجزات المولات ومطاعم الأغنياء وبالعشيرة الفلانية، والطائفة الكبرى، والطقوس المثخنة بالدم، رغم إن الشعب ينام على كم هائل من ثروات النفط والغاز والماء والثقافة والفنون.
خداع ولعب بالأرقام والحساب، تجرى في أروقة الحكومة للبقاء على امتيازات رجال السلطة والأحزاب، وسرقة " تفاليس" أبناء الفقراء والشهداء واليتامى والموظفين والمتقاعدين. هناك صناعة تمويه لخلط الأوراق، وإشغال المواطن بالدولار صعوداً وهبوطاً. والنتيجة؛ فرحة الموظف المسكين في استمرار راتبه الشهري، مقابل ضريبة استقطاع 30% من راتبه بلعبة تغيير قيمة الدينار أمام الدولار، وشيطنة الحسابات الوهمية!
ما نسمعه اليوم من إعلان مكرمة جديدة قيمتها 100 ألف دينار لشهر واحد فقط هي محاولة تخدير الناس، واللعب على العواطف والعوز، وتشتيت فكرهم حول الإيرادات الكبيرة للنفط نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية. فَمال النفط مجهول الهوية لا نعرف سر دخوله وخروجه ومبازل صرفه، وأماكن اللصوص التي ينتظروه!
كان بإمكان الحكومة دعم الحصة التموينية بدلا من مكرمة "التفاليس" المخزية والمُذلة، لأنها سخرية واستبهال واستخفاف بعقول الشعب، وهي من صنع سلطة جرباء، وتخاريف سياسية لكهنة الدين والمشعوذين واللصوص.
هاشتاك الشعب :100 ألف دينار عراقي ومعها 100 ألف "زيج" عراقي "عفطة" لمكرمة الذل التي لا تساوي عفطة عنز أجرَب!