: آخر تحديث

الدين ليس علاجاً ولا معجزات

73
70
58
مواضيع ذات صلة

رغم أن المعرفة والثقافة العلمية أصبحت سائدة في عصرنا هذا ودخلت في كل بيت بفعل مواقع التواصل الاجتماعي والبرامج المتعددة، إلا أن هناك مجموعة من المفاهيم والأفكار التي لا زالت تؤثر في الكثير ومنعتهم من الاستفادة من التقدم العلمي في كافة المجالات، من ذلك رفض العلاج النفسي تحت ذريعة أن العلل النفسية نابعة من القصور في الجانب الديني والروحي. 

الإكتئاب ليس هو الحزن، الوسواس القهري ليس هو الحرص المعقول، الرهاب الاجتماعي والخجل ليس هو الحياء، فهنا لن تُجدِ نفعاً النصائح والمواعظ الدينية التقليدية، هذهِ اضطرابات نفسية لها مجموعة من الأعراض يُشخِّصها الطبيب والأخصائي النفسي بناءً على ماورد في الدليل التشخيصي DSM أو التصنيف الدولي ICD. 

جميع أدعية الهم والحزن والكرب لو كررها المريض النفسي آلاف المرات لن يُشفى إلا بأمر الله أو من خلال حدوث معجزة يستثني الله بها هذا المريض، وهذا من المستحيلات، لأن المعجزات للأنبياء عليهم السلام فقط. لذا كان لزاماً على الإنسان المُبتلى بأي مرض كان نفسي أو عضوي، أن يبحث عن العلاج المبني على البراهين العلمية، فالدين ليس معجزات حتّى تلجأ إليه وتنتظر حدوث ما تتخيَّله في عقلك.

عندما يكرر المريض (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) ويتخيل أن الله سينجيه كما نجَّى يونس عليه السلام، هذا عجز من المريض وهروب من الواقع والحقيقة وخلل في فهمه وتصوُّره عن الله والدين والإيمان، كذلك عدم إدراك حقيقته كإنسان يجري عليه ما يجري على جنس البشر، عندما تُكرِّر وتلجأ إلى هذا الدعاء يجب أن تستحضر في ذهنك أنك لستَ يونس عليه السلام! وبالتالي لن تحدث معجزة كما تتمنى وتتخيل! بالطبع ستحصل على الأجر من الله نظير هذا الدعاء ونظير صبرك على البلاء، وهذا لا يلومك عليه أحد لأنه فهم صحيح للدين. 

الأنبياء عليهم السلام بشر لكن الله خصَّهم بالنبوة التي تمنحهم مزايا يفوقون بها سائر البشر وتجعلهم على اتصال دائم مع الله والذي هو يساندهم في كل لحظة من خلال الرؤى الحقيقية والمعجزات التي تُعزيِّهم في غربتهم على الأرض وتُقويِّهم في سبيل نشر دعوتهم ورسالتهم، فما يعتريك لا يعتريهم، وما يجري عليهم لا يجري عليك،وما يحصل لهم من مزايا كمخاطبة الله لموسى عليه السلام في جبل الطور لا يمكن أن يحصل لك! هذهِ الأذكار والأدعية أتت لتربطك روحياً بالله وتمنحك معنى روحي عميق (كالتجارب الصوفية) وتحميك من الأزمات الوجودية، لكنها لم تكن ولن تكون علاجاً ولا حلَّاً سحرياً. 

الاعتماد على الدين والإيمان في تحقيق ما يتمناه الإنسان من نجاح أو تحقيق أهداف دنيوية أو الشفاء من أحد الأمراض من خلال القيام بطقوس دينية معينة(رقية شرعية، رشم الصليب…إلخ)، يقود الإنسان إلى الفشل والإخفاق في حياته أو الإلحاد، لأن الإنسان الذي ينهج هذا النهج لن يحصل على شيء البتَّة، ليس لأن الله جلَّ  جلاله غير موجود أو أنه عاجز عن تحقيق ما يريده الإنسان ويرجوه منه، إنما هذهِ سياسة الله وطريقته منذ أن حطَّ آدم عليه السلام قدميه على الأرض، وهبه الله العقل واليدين والرجلين ووفَّر له البيئة المناسبة بمواردها المختلفة، ما تقرره في عقلك وتعمله بيديك  هو نصيبك في هذهِ الحياة.

قد يرى البعض أن هذا الكلام خطير ويبعث على اليأس والقنوط من رحمة الله، ولكن عند رؤية النتائج المترتبة عليه من إقبال الإنسان على نفسه وثقته بها وعمله على تعزيز قدراته ومعرفته يقيناً أنه لن ينتشله من معاناته أيَّاً كانت سوى نفسه، سنجد أن هذا المفهوم إيجابي وفي مصلحة الإنسان والبشرية عموماً، حيث ستتنوَّع الخبرات والتجارب وستتجلَّى الإبداعات والإنجازات وفقاً لطبيعة كل إنسان ومعاناته. 

هناك حديث نبوي فيه إشارة واضحة إلى أن هناك علاج نفسي مادي لتلك العلل النفسية التي قد تبدو روحية بالنسبة لنا، يقول عليه الصلاة والسلام:(التلبينة مُجِمَّة لفؤاد المريض، تذهب ببعض الحزن) وهذا يدل على أن الأمراض النفسية (كالحزن عندما يتحول إلى اكتئاب) لها أبعاد بيولوجية وبيوكيميائية، علاجها يستلزم الخضوع للمعالجة النفسية بشقيها الدوائي والنفسي (المعرفي السلوكي، الجشطالتي، التحليلي...إلخ). 

العلاج النفسي في عصرنا هذا يقوم مقام التلبينة في العصر القديم، فيجب أن يتوقَّف كل جاهل يثني أصحاب المعاناة النفسية عن ذهابهم للعلاج النفسي وتثبيطهم، أنتم ترتكبون جريمة بحق هذا الإنسان، أنتم تقتلونه في كل لحظة، أنتم تسيؤون لله وللدين من حيث لا تشعرون، أنتم تمنعونه من الخلاص من هذا المرض الذي قد يودي بحياته إلى الانتحار!

لا تكونوا مثل أولئك النفر الذين كانوا في سفر وأصاب أحدهم جرح في رأسه، فاحتلم، وكان يريد التيمُّم، لكنهم أخبروه بضرورة الاغتسال، فاستجاب لرأيهم واغتسل فمات، فلمَّا أخبروا النبي عليه السلام بفعلهم قال:
(قتلوه قتلهم الله) 
نعم؛ قتلوه بجهلهم! 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في