فاض الكيل بمصر من التدخل التركي في ليبيا، لاسيما في ظل الصمت المريب للقوى الدولية، ومنها الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية.
وجاءت تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي، في منطقة سيدني براني على الحدود مع ليبيا، معبرة عن جموع المصريين والعرب، الذين يسيطر عليهم الغضب من تدخل تركيا السافر في ليبيا، بالتزامن مع احتلالها لأجزاء من سوريا والتدخل العسكري في العراق.
الرئيس السيسي قال أثناء تفقده وحدات الجيش المصري بالمنطقة العسكرية الغربية: "إن أي تدخل مباشر من الدولة المصرية بات تتوفر له الشرعية الدولية". وأضاف أن ذلك "سواء في ميثاق الأمم المتحدة: حق الدفاع عن النفس أو بناء على السلطة الوحيدة المنتخبة من الشعب الليبي: مجلس النواب".
وأوضح السيسي أن هذا التدخل المحتمل يأتي لحقيق عدة أهداف منها: حماية الحدود الغربية للدولة ووقف إطلاق النار بين الأطراف المتنازعة في ليبيا، فضلا عن إطلاق مفاوضات التسوية السياسية.
وأكد السيسي أن "مصر لم تكن يوما من دعاة العدوان على الأراضي والمقدّرات لأي من الدول". كما أكد أن وصول القوات التركية والمرتزقة العاملة معها إلى مدينة سرت والجفرة "خط أحمر".
لم تكن زيارة السيسي إلى قوات المنطقة العسكرية الغربية وتفقد تلك القوات على الهواء مباشرة، وتصريحاته التي لا تحتمل اللبس أو التأويل، إلا ردًا قويًا على الغطرسة التركية في ليبيا، التي وحد وصلت إلى تحريض حكومة ما يسمى بـ"الوفاق" التي تسيطر عليها جماعة الإخوان سياسيًا، وتحكمها الميليشيات عسكريًا، على رفض المبادرة المصرية للحل السياسي في ليبيا، وتعطيل الاجتماع الطاريء للجامعة العربية، الذي دعت إليه الجامعة، لبحث الأزمة، بل وصلت الغطرسة التركية إلى حد إملاء الشروط، ومطالبة الجيش الوطني الليبي بالانسحاب من مدينة سرت شمالًا والجفرة جنوبًا.
ليست هذه التطورات وحدها التي استدعت أن يتحدث السيسي بلهجة حاسمة وحازمة للعالم أجمع، بل هناك تطورات أخرى خطيرة جدًا، يجب أن ينتبه إليها العالم العربي كله، فالمخطط التركي بدأت تتضح ملامحه، فالهدف ليس السيطرة على ليبيا ونهب ثرواتها فقط، بل يمتد إلى السيطرة على شمال أفريقيا شمالًا، ومنطقة الشرق والقرن الأفريقي، الذي كانت تخضع للاحتلال العثماني لعقود طويلة.
وحتى لا يكون الكلام مرسلًا، أو يتهمني "مجاذيب أردوغان" وهم في أكثرهم إخوان أو كارهون للدولة المصرية، ويؤيدونه مكايدة وعنادًا في نظام الحكم، بالتهليل للسيسي أو أني من "مهاويس" نظرية المؤامرة، أقول لهم إن مصر إذا تركت أردوغان يلتهم ليبيا اليوم، فسوف يلتهم تونس غدًا، والسودان بعد غد، كما التهم الصومال بالأمس القريب ونحن عنها غافلون.
يعرف الجميع أن جماعة الإخوان تتحكم في مقاليد الأمور في تونس، ممثلة في رئيس البرلمان راشد الغنوشي، وحزب النهضة، الذي يناصر تركيا في تدخلها العسكري في ليبيا، ولكن كثيرون لا يعلمون أن جماعة الإخوان في تونس، تدين بالولاء لأردوغان، لأنها تراه خليفة المسلمين، كما أنها ترغب في الانتقام من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لأنه أفشل المشروع الإخواني، وعاقب قيادات الجماعة، ومنهم المرشد العام والرئيس الراحل محمد مرسي، الذي رفع النواب التابعون لحزب النهضة صوره الأسبوع الماضي في البرلمان التونسي مكتوبًا عليها وصف "الشهيد"، وتؤيد الجماعة وحزبها التدخل التركي في ليبيا، من أجل تحريرها، بل وتحرير مصر أيضًا، على حد أوهامهم.
ومن أجل تحقيق السيطرة الكاملة والأبدية على ليبيا ومنطقة شمال أفريقيا، بدأت تركيا في إنشاء قاعدتين عسكريتين دائمتين في الأراضي الليبية. وتجري حاليًا عمليات تحويل قاعدة الوطية الجوية العسكرية، إلى قاعدة عسكرية جوية تركية دائمة، ويتم إصلاح بنيتها التحتية وإعادة تأهليها بعد انسحاب الجيش الوطني الليبي منها، وبدأ بالفعل نصب منصات الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي التركية، وإنشاء مركز عمليات للطائرات الميسرة.
المعلومات الواردة من ليبيا أيضًا، تشير إلى أن تركيا تعمل على تحويل ميناء مصراتة المطل على البحر المتوسط إلى قاعدة عسكرية بحرية، وبذلك تكون تركيا قد سيطرت على منطقة شمال أفريقيا.
كل ذلك يتم بالاتفاق مع حكومة ما يسمى بـ"الوفاق" التي يديرها ظاهريًا فايز السراج، بينما تتحكم فيها جماعة الإخوان فرع ليبيا سياسيًا، وتحكمها الميليشيات العسكرية، بل وصل الأمر إلى حد إصدار فتى من المفتي الليبي الإخواني الصادق الغرياني، بشرعية إنشاء قواعد تركية في ليبيا، وقال في فتوى له: "منح دولة أجنبية إمكانية إنشاء قواعد عسكرية في ليبيا لا يعيرنا في الحق ما دام لنصرة الحق لأنه أمر مشروع".
وما لا يعرفه الكثيرون أن أردوغان التهم دولة عربية بالكامل في غفلة من العرب، وهي الصومال، وأنشأ فيها أكبر قاعدة عسكرية في الخارج، وتدير المخابرات التركية جهازي الشرطة والاستخبارات في الصومال. واشترى أردوغان زعماء الحرب والميلشيات الإرهابية بالأموال، في الوقت الذي غفل فيه العرب عن هذه الدولة، راح أردوغان يحط جنوده والمرتزقة فيها، ويوزع على الفقراء المساعدات ويحصل على الأرض مقابل الطعام، تمامًا كما فعل اليهود عندما انتزعوا فلسطين من الجسد العربي.
ابتلع أردوغان الصومال في أقل من عشر سنوات، عندما زارها للمرة الأولى في العام 2011، بينما يغط العرب في نوم عميق، لا أفاق الله لكم جسدًا أيها النيام.
الجميع يعلم جيدًا، أن أردوغان كاد أن يبتلع السودان أيضًا في الأيام الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، واتفق معه على إقامة قاعدة عسكرية في جزيرة سواكن في البحر الأحمر، لكن الشعب السوداني تدارك الخطر، وقام بثورة شعبية مجيدة، أطاحت بنظام حكمه، وأسقطت جماعة الإخوان.
جماعة الإخوان المعروفة في السودان باسم "الكيزان" مازالت تتغلغل في مؤسسات الدولة، ولاسيما المؤسسات الأمنية والجيش، وحاولت أكثر من مرة الانقلاب على الثورة والمجلس السيادي، وإعادة نظام حكم البشير مرة أخرى، ومازال تتحين الفرصة للانقضاض على الثورة، وفي حالة سيطرت أردوغان على ليبيا، سوف يعمل على تقوية شوكة "الكيزان" مرة أخرى، ونشر الفوضى في السودان، حتى يمكنه التدخل فيها، وتحقيق حلمه بالسيطرة على هذا البلد، واستعادة الإمبراطورية العثمانية في أفريقيا.
وحتى لا يتهمني "مجاذيب أردوغان" بالشطط، أقول لهم إن الرابط بين كل هذه البلاد هو "رابط إيديولوجي"، "إخواني". أردوغان تركيا يرى أنه "خلفية الإخوان المسلمون"، ويسعى من خلالهم إلى استعادة الإمبراطورية العثمانية، فقد حاول كثيرًا مساعدة الإخوان بعد ثورة 25 يناير من أجل السيطرة على مصر، وعندما فشلت الجماعة وثار المصريون ضدها، وفر لهم الحماية السياسية في تركيا وفتح لهم القنوات، ودعمهم بالمال والسلاح.
وعلى الأساس الإخواني دعم حكومة الوفاق في ليبيا، وهو الرابط نفسه الذي جعل الرئيس السوداني السابق عمر البشير يدعم الميلشيات المسلحة في ليبيا قبل إسقاط نظامه.
الزحف نحو السلطة هو هدف الإخوان والسيطرة على ثروات الشعوب واستعادة إمبراطورية أجداده هو هدف أردوغان، وتحت غطاء الدين والإسلام يسعى الطرفان لتحقيق أهدافهم، بينما تدفع الشعوب الثمن باهظًا من دمائها وثرواتها وأرضها.
يذكر التاريخ أن مصر تصدت للعديد من المشروعات الاستعمارية منذ موقعة عين جالوت في (25 رمضان 658 هـ / 3 سبتمبر 1260م)، عندما قهرت التتار وهزمتهم. ومعركة "حطين" بتاريخ (25 ربيع الثاني 583 هـ الموافق 4 يوليو 1187م) التي هزت فيها الصليبيين، وحررت القدس.
وسوف يذكر التاريخ أيضًا أن مصر سوف تتصدى للاستعمار التركي الجديد، وتفشل مخططاته.. وحدها كالعادة، "وستذكرون ما أقول لكم".

